ولا يجوز الإقدام على الضرب إلاَّ بالتصريح، فليس مُجرد الإذن في التعليم إذنًا في الضرب؛ لأنه لا يَسْتَلْزِمُه، وقد رأينا مَنْ يأذن فيه، وينهى عن الضرب، فسكوته عنه يَحْتَمِل رضاه به وعَدَمُه، ولا يجوز الاعتماد على العادة ونحوها؛ إذ العقوبات يُحْتاط فيها، وتُدْرَأ ما أمكن كما أجمعوا عليه.
فإذا وُجِدَ الإذنُ المُعْتَبر، جاز للمُعلم الضرب على كل خُلق سيِّئ صَدَر من الولد، وعلى كل ما فيه إصلاحٌ للولد ... [12]؛ إنَّه يرجع في الضرب للإصلاح، كتكاسله عن الحفظ، وتفريطه فيما علمه - إلى ظَنِّه واجتهاده، وأمَّا الضرب لوقوع فُحش منه، كهَرَبه أو إيذائه لغيره، أو نُطقه بما لا يليق، فلا بُدَّ مِنْ تَيَقُّنه، أو مِنْ إخبار مَنْ يُقْبَلُ إخْبارُه بأنه فعل ذلك، ولا يُنافي هذا قولهم: لا يجوز للقاضي القضاء بعلمه في حَدٍّ [13]، ولا تَعْزير [14]؛ لأن القاضي مُتَّهِم، وليس بمُحتاج إلى إصلاح الغَيْر قبل إقامة البيِّنة عليه بخلاف المُعَلِّم فيهما، فإنه غير مُتَّهِم، ويحتاج إلى الإصلاح، فلو تَوَقَّف على البَيِّنة الشرعية، لتَعَطَّل عليه الأمر، وفات المَقْصِد من التعليم والتربية، فسُومِحَ له في الاعتماد على علمه أو ظَنِّه المؤكد بكون الولد فعل مُقْتَضيًا للتَّعْزير، وقد صَرَّحوا بأن للسيِّد حَدَّ رَقيقه؛ اعتمادًا على علمه، وفَرَّقوا بينه وبين القاضي بنحو ما ذَكَرْتُه.
ويجوز للمُعلم الضرب فيما يتَعَلَّق بنفسه، كأن أساء إليه الولد بنحو شَتْم، أو سرقة ماله، وإذا جاز للمُعلم التَّعْزير، فله الضرب، ويَلْزَمُه أن يكون على حَسَب ما يراه كافيًا بالنسبة لجريمة الولد، فلا يجوز له أن يَرتقي إلى مَرتبة وهو يرى ما دونها كافيًا؛ كدَفْع الصَّائِل.
ولا يجوز له أن يَبْلُغ بالضرب أربعين في الحر، وعشرين في غيره، بل يلزمه النقص عن ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في خبر مُرْسَل: ((من بلغ حَدًّا في غير حَدٍّ، فهو من المُعتدين)). [15]
وأما خَبَر الصحيحين: ((لا يُجْلَد فوق عشرة أَسْوَاط إلاَّ في حَدٍّ من حدود الله تعالى)) [16]، فهو مَحْمُولٌ على ما هو الأولى غالبًا، وإلاَّ فقُبْح الذَّنْب قد يقتضي الزيادة، أو هو مَنْسُوخ؛ لعَمَل الصحابة بخلافه من غير إنكار. [17]
ويُشْتَرَط أيضًا في جواز التَّعزير للمُعَلِّم أن يَظُنَّه زاجرًا له، وألاَّ يكون الضرب مُبَرِّحًا، ويظهر من كلامهم ضَبْطُه بأنه الشديد الإيذاء؛ بحيث لا يُحْتملُ عادةً، وإن لم يُدْمِ البدن، فإذا ظَنَّ أنه لا يُفيد فيه إلاَّ المُبَرِّح، فلا يجوز المُبَرِّح إجماعًا، ولا غيره على الأَصَحِّ؛ لأنه لا يُفيد، والعقوبةُ إنَّما جازت لنحو الصبي على خلاف الأصل؛ لظَنِّ إفادتها زَجْرًا له أو إصلاحًا، فإذا ظَنَّ انْتِفاء فائدتها، فلا مُقْتَضى لجَوازِها.
ثم كيفيةُ ضَرْبِه أن يكون مُفَرَّقًا، لا مَجْمُوعًا في مَحلٍّ واحد، وأن يكون في غير وَجْه ومَقْتَل، وأن يكون بين الضربتين زَمَنٌ يَخِفُّ به أَلَمُ الأول، ولا يَرْفَع الضَّاربُ ذِرَاعَه؛ ليثقل السَّوْط، ولا عَضُدَه حتى يُرى بياضُ إبِطِه، فلا يَرْفَعه؛ لئلاَّ يَعْظُمَ أَلَمُه، ولا يَضَعه عليه وَضعًا لا يَتَأَلَّم به.
ويَجِبُ في نحو السَّوط أن يكون مُعْتَدِل الحَجْم، فيكون بين القَضيب والعصا، وأن يكون مُعتدل الرُّطُوبة، فلا يكون رَطْبًا، يَشُقُّ الجِلْد لثقَلِه، ولا شديد اليُبُوسَة، فلا يُؤلِمُ لخِفَّتِه، ولا يَتَعَيَّنُ لذلك نَوعٌ، بل يَجوز بسَوط - وهي سُيُور تُلْوى - وبِعُودٍ، وخَشَبةٍ، ونَعْلٍ، وطَرَف ثَوْبٍ بعد فَتْلِه حتى يَشْتَد، وما نقله الروياني [18] عن الأصحاب من أنه يَتَعَيَّن على الزوج في ضَرْب زوجته أن يَقْتَصِر على الضرب بيده، أو بمِنْديلٍ فيها، فالمُعلم مثله، بجَامِعِ أن ضَرْبَ كلٍّ منهما تَعْزير، بل المعلم أولى؛ لأنه يضرب غير مُكَلَّف لم يفعل معصية، والزوج يضرب مُكَلَّفةً غالبًا على معصية - فليس بمُعْتَمَد [19]، بل المُعتمد ما في شرح الإرشاد [20] من أنه يجوز للزوج الضرب بالسوط وغيره، فهما سواء في ذلك، وإن فرَّقوا بينهما بأن الأولى للزوج العفو؛ لأنه لحَظِّ نفسه، والأولى لمؤدب الصغير عَدَمُه؛ لأن المصلحة تعود على المضروب، ومِنْ ثَمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يُؤَدِّب أحدُكم وَلَدَه بسَوْط خيرٌ له من أن يَتَصَدَّق عنه بصَاع)) [21].
ويُقْبَل قولُ المُعلم في عَدَم تعدِّيه بالضَّرْب، فلو ادَّعَى الوَلي الآذِن تَعَدِّي المُعلم، وأنكر المُعلم، صُدِّق المُعلم؛ لأن المُعلم وَكِيلُ الوَلي، والمُوَكِّلُ إذا ادَّعَى على وَكيله أنه تَعَدَّى فيما وَكَّله فيه، كان القول قول الوكيل.
فائدتان:
الأولى: وقع للترمِذي [22] من أصحابنا أنه يَجوز أن يَجْمَع ضَرَبات التَّعْزير في مَوْضِع واحد من البَدَن بخِلافه في الحَدِّ، وأن يضرب فيه بسوط فوق سوط الحدِّ، وأن يكون الضرب فيه أقوى من الضرب في الحد. اهـ، وهو في غاية الغَرَابَة، ومِنْ ثَمَّ خَطَّأه الروياني في ذلك، وقال: هذا مَذْهَب أبي حنيفة - رضي الله تعالى - عنه. [23]
الثانية: قال الرَّافِعِي [24]: "مِنَ الأصحاب مَنْ يَخصُّ لفظ التَّعزير بما يفعله الإمام أو نائبه، ويُسَمِّي غير ذلك، كضرب المُعلم للصبي، والزوج لزوجته - تأديبًا لا تَعْزيرًا، ومنهم مَنْ يُطْلِق التَّعْزير على الكل، وهذا هو الأشهر".اهـ، مُلَخَّصُ كلام العَلاَّمة.
وقد ذكر النَّوَوي في مَجْمُوعه [25] طُرقًا في كيفية التَّعزير، فليُراجع.
والله أعلم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأصهاره والتابعين، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا متتابعًا إلى يوم العرض على مالك المخلوقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.alukah.net/articles/1/3994.aspx