يهضمها في هدوء وبقى هذا ا الكائن يأكل من حاجاته المتواضعة حتى إذا جاء
الاستعمار لم يدع له شيئاً فتحرك ضميره (أي معدته) فمد يده إلى فريسة وهمية
أطلق عليها لفظة (الحق) [7].
وكان هذا منشأ سياسة الدجل التي مارسها من يتقن هذه الأدوار، وللمطالبة
بالحقوق إغراء شديد فهي كالسم لا يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة
الواجب لا تجتذب غير (النافعين) [8]، وعندما يستغلها الزعماء المهرجون لتجميع
الغوغاء من الشعب ويلعبون بمفتاح (الحقوق) فسيكون من الصعب أن يستخدموا
مفتاح الواجبات وتتحول الأمة إلى استجداء حقوقها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن
والرأي العام العالمي ولكن ما من مجيب، لأن هذه الأصنام ما نصبت إلا لتخدير
الشعوب وتعليمها لغة الاستجداء.
وعلى الصعيد السياسي فإن كلمة الواجب توحد وتؤلف بينما كلمة الحق تفرق
وتمزق، وهكذا ما خرجت دولة من دول العالم الثالث من ربقة الاستعمار إلا
وتناحرت أحزابها على المطالبة بحق اقتسام الغنيمة، بدلاً من أن يتكلموا عن
الواجبات، وهذا ما حصل في الجزائر، واليمن الجنوبي، ونيجريا،
والكونغو … [9].
ومن الأمثلة التي ترويها ذاكرة الأستاذ مالك بن نبي حول هذا الموضوع:
(شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين يقفون من
قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديراً
بالملاحظة، فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض
الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، وهم في هذا كله
يهاجمون الاستعمار في خطب ملتهبة بالحماس متقدة بالوطنية، وهكذا يستمرون في
خطبهم ومقالاتهم حتى تتقطع أنفاسهم عن الكلام، وتمر الأعوام تلو الأعوام
والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق
حلها، لقد أصدرت الحكومة الفرنسية عام 1940 قوانين استثنائية قاسية حول
تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية (مسايرة لألمانية الهتلرية)
وشعرت الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية غير أنها لم تكتب مقالة
واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر، وإنما
اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، وحددت موقفها بأن
يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، وهكذا أصبح كل بيت من بيوت
المتعلمين مدرسة في ساعات معينة، ولا نستطيع أن نبرر هذا بتفوق اليهود المادي
أو العلمي لأننا لا نستطيع أن نفترض أن الدكتور أو الصيدلي أو المحامى اليهودي
أغزر علماً من زميله الجزائري، فالاختلاف هو في الموقف الاجتماعي إزاء مشكلة
معينة) [10].
مثال آخر يتذكره ابن نبي وهو يحلل هذه المشكلة: (وبدلا من أن تكون البلاد
(الجزائر) ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات فإنها أصبحت منذ سنة1936 ,
سوقاً للانتخابات، وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقى منه الخطب
الانتخابية، وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب،
أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع، وفى هذا اختلاس أي اختلاس للعقول
التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها) [11].
وهذا المرض لا يزال مسيطراً على العقول، فكثيراً ما نسمع في قرية من
القرى أو حي من الأحياء المطالبة بحقهم في فتح طريق أو تنظيف شارع أو فتح
مدرسة، وكان بوسعهم أن يتعاونوا لإنجاز مثل هذا العمل. وكان الرسول صلى الله
عليه وسلم يعلم الناس القيام بالواجب عندما أعطى الذي جاء يطلب صدقة حبلا
وفأسا وأمره أن يحتطب ولا يتكفف أيدي الناس [12].
العقلية الذرية:
يقصد بهذا المصطلح أن بعض الناس (ينظر إلى الأحداث والوقائع مجزأة
منفصلة فردية، كأنما في مجموعها لا تكون حلقة من التاريخ وإنما كوماً من
الأحداث) [13].
وهذه العقلية موجودة في أوساط المسلمين بسبب بعدهم عن (الفعل الحضاري)
وبسبب التكوين الاجتماعي الذي ورثناه، ومن مظاهرها (أن جهودنا في كل مجال
لا تتسمم بالجهد المتواصل ولكن بالمحاولات المتتابعة، فما أن يبدأ نشاط ما حتى
يذهب فجأة كأنه وثبة برغوث أو كأنه مركب على صورة الخط المنقط الذي يمر من
نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً، ولنعتبر على سبيل المثال كم منذ نهاية
¥