وكلمة الحق هي النصيحة التي قال فيها النبي: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَن؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" رواه مسلم.
وهي لا تعني سوء الخطاب، أو غِلَظ الحديث، بل إن لها بالرفق واللين صلة وثيقة وخصوصًا حينما ترتبط بإرادة الإصلاح الحقيقي، وبسط الإيمان والأمان بين الناس، دون قصد التعالي والتباهي بالبحث عن الأخطاء والتشهير بالحكّام، فالله تعال يوصي نبيه موسى وهو في طريقه إلى دعوة أعتى حاكم فيقول سبحانه: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه:43 - 46]، ولاحظ كيف كان هذا الأسلوب الإلهي مدعومًا دعمًا مباشرًا بمعية الرحمن سبحانه التي تصحب الدعاة الصادقين والناصحين المخلصين.
ومن هنا كان لهارون الرشيد ـ رحمه الله ـ موقفًا طريفًا حينما جاءه من يعظه وقد أغلظ عليه في الوعظ والتذكير فقال له الرشيد: " يا هذا، إن الله تبارك وتعالى قد أمر من هو خيرٌ منك بإلانة القول لمن هو شرٌ مني، قال لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام إذ أرسله إلى فرعون: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).
وصدقني ـ أيها القارئ الكريم ـ إن الحاكم المسلم يقدًّر في العلماء علمهم، ويجلّ فيهم هيبتهم ماداموا يسيرون على سمتهم الوقور، ويتكلمون على لسان مصالح الشعوب، حتى ولو خالفوه في مبادئه أو في بعض تصرفاته، وحتى لو سجنهم أو كممهم إلا أن لهم في قلبه تعظيمًا وتقديرا!!
وتأمل موقف غازان التتري مع شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حينما وقف بين يديه يناصحه ويناشده الرجوع إلى الحق فإنه قال له بلسان الأمة لا بلسان الطامع في رضاه أو في التقرب منه: "أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا، فغزوتنا وبلغت بلادنا .. على ماذا؟ وأبوك وجدك كانا كافرين، وما غزوا بلاد المسلمين بعد أن عاهدونا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلتَ فما وفيت!!
فقرّب غازان إلى الوفد طعامًا فأكلوا إلا ابن تيمية، فقيل له: ألا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟ وغازان مصغٍ لما يقول، شاخص إليه لا يعرض عنه، وإن غازان من شدة ما أوقع في قلبه من الهيبة والمحبة، سأل: مَنْ هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله، ولا أثبت قلبًا منه، فأُخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل، ثم طلب منه غازان الدعاء، فقال الشيخ يدعو: اللهم إن كان عبدك هذا إنما يقاتل لتكون كلمتك العليا، وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده، وملكه البلاد والعباد، وإن كان قد قام رياء وسمعة، وطلبًا للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا، وليذل الإسلام وأهله، فاخذله وزلزله ودمره واقطع دابره، وغازان يرفع يديه يؤمن على دعائه!! "
وفتنة العالم بالسلطان عظيمة ولا شك، ذلك حينما يهيل عليه الأموال، ويرفع له المناصب، ويبسط له الوجه، ويمنيه بالجاه، ويقضي له الدين والحوائج، حتى إذا تكاثرت عليه العطايا حجب عنه نور العلم، واستوحش منه الناس، ونظر إليه الحاكم نظرة التحقير لما يرى منه من التذلل لأجل حوائجه، قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "حضرنا بعض أغذية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم؛ فالعلماء يتواضعون ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم لما يعلمونه من احتياجهم إليهم" صيد الخاطر: 194.
والناظر بعين الإصلاح يجد أن العالم الناصح لابد أن يتعلم فنّ النصح للسلاطين دون التقرب إليهم فهو أنفع له ولأمته من قدرته على نقدهم بين العامة؛ أو البعد عنهم من غير نصح أو توجيه، فتلتهم مجالسَهم بطانةُ السوء، فلا تُرحم حينها العوام ولا الخواص.
أما فتنة إلحاح العامة على العالم، فلا تقل تأثيرًا اليوم عن سلطة الحاكم وجبروته، فإن قامت للعامة همة وحماس أوقدوا في العالم نار التحرّك واستطالة الحديث، يحصرونه في زاوية ضيقة من الذهاب عليه والإياب، والجدل والاستعجال، حتى يفعل أو يقول ما لو تأمل فيه بعد ذلك ما قال ولا فعل!!
¥