هذا ما وجهناه لحضرتكم ملتمسين التنازل بمجاوبتنا عليه، ولك يا سيدنا
الخيار في المجاوبة أن تكون على صفحات المنار أو كتاب مخصوص، وإذ كانت
في المنار تكون أعم وأنفع، وإن أردت أن تجاوب على بعضها في المنار وبعضها
كتابة مخصوصة فالأمر إليك، ونحن قد اتكلنا بعد الله عليك، ولنا كبير الأمل أن
حضرتك تهدينا إلى سواء السبيل لا سيما وحجنا يتوقف على جوابكم؛ لأنه لا
يخفاك أننا نقصد الحج نطلب الأجر والغفران، لا الإثم والخسران، فأمط لنا - بما
أعطاك الله من سعة العلم - نقاب الباطل عن وجه الحقيقة أدامك الله سراجًا يهتدي
به مَن ضل عن محجة الصواب، والسلام عليك.
4 شعبان سنة 1331 إلى مصر. القاهرة
من المخلص
ناصر مبارك الخيري
بالبحرين
أجوبة المنار
قد سبق لنا القول في مجلدات المنار السابقة عن حكم الحج جملة وتفصيلا،
والانتقاد على ملوك المسلمين وأمرائهم أنهم تركوا هذه الفريضة، وعذر الأستاذ
الإمام رحمه الله تعالى في تأخير هذه الفريضة إلى أن وافاه أمر ربه، وكون عذرنا
عين عذره.
وما نظن أن السائل وأصحابه الذين أشار إليهم قد علقوا حجهم على جواب
هذه الأسئلة، ولعله قال ذلك لنبادر إلى الجواب عنها، وها نحن أولاء نبادر إلى
ذلك، وإن كان لدينا كثير من الأسئلة مقدمة عليها في التاريخ.
* * *
حكمة تقبيل الحجر الأسود
ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى
والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل
قائليه من جهة وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى، ومن عرف معنى العبادة
يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة ولكن يعبدون الله تعالى
وحده باتباع ما شرعه فيهما، بل كان من تكريم الله تعالى لبيته أن صرف مشركي
العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل الإسلام عن عبادته،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ولم يعبدوه. ذلك أن عبادة الشيء عبارة
عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أو دفع الضرر
عنه، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه
السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود فيستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له بأن
يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة الذاتية، ولا يوجد
أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له، ولا أن
سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى، ولا كانت العرب في الجاهلية تعتقد
ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها:] مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى [(الزمر: 3)،] هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ [(يونس: 18) وإنما عقيدة
المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله،
قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن.
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله
عنه، وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أثر عمر كان العمدة في
هذا الباب للاتفاق على صحة سنده.
قال الطبري: إنما قال عمر ذلك أي أنه معلوم من الدين بالضرورة؛ لأن
الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر
الأسود من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يعلم
الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر يضر
وينفع بذاته. اهـ.
فإن قلت: روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال ذلك قال له
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنه يضر وينفع، وبين ذلك بأن الله لما أخذ
الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وأنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: (يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد)
فالجواب أن هذا الحديث باطل، انفرد بروايته عن أبي سعيد أبو هارون عمارة بن
جوين العبدي، وأهون ما قيل فيه: إنه ضعيف، وكذَّبه حماد بن زيد، وقال
يحيى بن معين: ضعيف لا يصدق في حديثه، وقال الجوزجاني: أبو هارون كذاب
¥