في ذم التقليد والمقلدين وقد عابهم الله عز وجل في كتابه العزيز في عدة مواضع منها:
قوله تعالى: (وإذا قيلَ لهم اتّبِعُوا ما أنزلَ اللهُ قالُوا بَلْ نتبعُ ما ألفينا عليه آباءنا أوَ لو كانَ آباؤُهم لا يعقلونَ شيئاً ولا يهتدون).
ومن ذلك في المائدة: (وإذا قيلَ لهم تعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ اللهُ وإلى الرسولِ قالُوا حَسْبُنا ما وجدْنا عليهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كَانَ آباؤُهِم لا يعلمونَ شيئاً ولا يهتدون).
ومن ذلك في حم الزخرف: (بلْ قَالُوا إنَّا وجدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهمْ مهتدونَ)، ثم ذكر سبحانه أن هذه الشبهة تمسك بها جميع الأمم قال سبحانه: (وكذلكَ ما أرسلْنا مِنْ قبلكَ في قريةٍ مِنْ نذيرٍ إلاَّ قالَ مترفُوها إنا وجدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهمْ مقتدون)، فكان الجواب عن شُبَهِهِمْ من وجهين:
أحدهما: قوله تعالى: (أوَ لوْ كانَ آباؤُهم لا يعقلونَ شيئاً ولا يهتدون).
الوجه الثاني: (قل أوَلَوْ جئتُكم بأهْدَى مما وجدتُم عليهِ آباءَكم). وههنا نكتتان:
إحداهما قوله: (بأهْدَى) ولا هداية آباءهم، وإنما ذكر ذلك توطئةً لاستماع حجتهِ وتلطفاً إلى هدايتهِ.
النكتة الثانية: أعرضوا عن الجواب الملزم لهم إلى استماع ما هو أهدى إلى قولهم: (إنا بما أُرْسِلْتُم به كافرونَ).
فصلٌ:
في جواز التجوز وفي الكتاب العزيز من ذلك كثيرٌ من ذلك قوله تعالى: (إنَّ الذينَ يكتمونَ ما أَنزلَ اللهُ مِنَ الكتابِ ويشترونَ به ثمناً قليلاً أولئكَ لا يأكلونَ في بطونِهِم إلا النَّارَ) وقد علم أنهم في الحالة الحاضرة لا يأكلون النارَ والشراءَ، والصبر على النارَ.
فصلٌ:
يجوز عطف الواجب على غير الواجب كقوله تعالى: (كُلوا مِنْ ثمرِهِ إذا أثمرَ وآتُوا حقَّه يومَ حصادهِ) وكقوله: (كُلوا من طيباتِ ما رزقْنَاكُمْ واشكرُوا للهِ إنْ كنتُم إياهُ تَعبُدونَ).
فصلٌ:
والإنكار بعد الاعتراف لا يسمع دليله قوله تعالى: (ثمَّ قيلَ لهمْ أينَ ما كنتُم تُشركونَ مِنْ دونِ اللهِ قالوا ضَلُّوا عَنَّا بل لم نكُنْ ندعُوا مِن قبلُ شيئاً كذلِكَ يُضِل اللهُ الكافرين) فعاقبهم على ضلالهم الأول بضلالٍ هو الإنكار بعد الاعتراف.
فصلٌ:
ومن لطائف الأجوبة الحدلية لما قال فرعون لموسى: (ألم نربِّك فينَا وليداً ولبثْتَ فينا مِنْ عُمُرِك سنينَ (كان جواب موسى عليه السلام: (وتلكَ نعمهٌ تمُنُّها عليَّ أن عَبَّدتَ بني إسرائيل) فالذي اعتده فرعونُ نعمةً جعلها موسى نقمةً هو جواب على معنى الكلام لا على لفظه.
فصلٌ:
ومن أنواع التجاوز قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلكِ تُحملونَ) والأنعام ثلاثةُ أنواع: إبلٌ وبقرٌ وغنمٌ. والمركوب منها الإبل خاصة.
فصلٌ:
في المباكتة بالتشنيع منها قوله تعالى: (قل يا أهلَ الكتابِ هل تنقمونَ مِنّا إلا أنْ آمنَّا باللهِ وما أنزلَ إلينا وما أُنزِلَ مِنْ قبلُ وأن أكثرَكم فاسقونَ قُلْ هل أنبئُكم بشرٍ مِنْ ذلكَ مثوبةً عندَ اللهِ مَنْ لعنَهُ اللهُ وغضبَ عليهِ وجعلَ منهم القردةَ والخنازيرَ وعبدَ الطاغوتَ أولئكَ شرٌ مكاناً وأضلُّ عنْ سواءِ السبيلِ). فإذا وقع التشنيع على مذهبٍ بسببِ حكمٍ خالفَ فيه الفقهاء، أو قولٍ فيه نفرةٌ مثلُ المخلوقة من الزِّنا وجواز الخضخضة على مذهب الإمام أحمد، أو ما كان للخصم أن يشنع على مذهبه بما هو من هذا القبيل وقد صح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لليهود:"يا إخوان القردةِ".
فصلٌ:
ومما يجري مجرى المقابلة في الأذى والجناس في الجزاءِ: (وقالتِ اليهود يدُ اللهِ مغلولةٌ غُلَّت أيديْهم ولُعِنُوا بما قالُوا). واللعن هو الطرد والبعد. ولما كانت يدُ اللهِ مبسوطةً بالقدرة على الإيجاد والإعدام والإشقاءِ والإسعاد كان القول بغلول يده سبحانه أبعد المحالات في نظر العقل فاستحقوا الإبعاد.
فصلٌ:
التخصيص بالذكر لا يدل على الاختصاص في الحكم كقوله تعالى: (لقدْ كفرَ الذينَ قالُوا إن اللهَ هوَ المسيحُ بنُ مريمَ) وقال سبحانه بعدها: (لقدْ كفرَ الذين قالُوا إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ).
فصلٌ:
يتضمن ثلاث شبهٍ والجواب عنها:
الشبهة الأولى: أنه تارةً تحدى بجملة القرآن وتارةً بعشرِ سورٍ، وتارةً بسورةٍ، والجوابُ أنه ذكر الآحاد والعقود ونفاها ليعلم العجز عن كله وبعضه. فإن قيل القديم لا يوصف بكلٍّ ولا بعضٍ قيل هذا كقولنا عالمٌ مريدٌ قادرٌ هذه بعضُ صفات القديم ولا نريد بَعْضِية التجزي وكما تقول: القرآن مائةُ وأربع عشرةَ سورةً كذا كذا آيةٌ.
الشبهة الثانية: ما الحكمة أن هذا الكتاب العزيز لم ينزل جملةً واحدةً وسائرُ الكتب نزلت جملةً جملةً قال تعالى: (وقالَ الذينَ كفروا لولا نزلَ عليهِ القرآنُ جملةً واحدةً كذلكَ لِنُثَبِّتَ بهِ فؤادَكَ ورتلناهُ ترتيلاً. ولا يأتونَكَ بمثلٍ إلا جئناكَ بالحقَّ وأحسنَ تفسيراً).
الجواب الثاني قال أهل المعاني: القوم كانوا قبلنا عمالاً فكتبت كتب عهودهم وسلمت إليهم جملةً، وهذه الأمة أحباب ورسائل الأحباب لا تنقطع.
الشبهة الثالثة: شبهة القدرية، قالوا: كيف الجمع بين إرادة خلق الفعل والعقاب عليه؟ والجواب ثبت بالإجماع أنه حكيمٌ عادلٌ، والحكيم العادل غير متهم كيف وقد ذكر الظلم في الكتاب العزيز في مائتي موضعٍ وثمانين موضعاً. وذمَّهُ وذمَّ الظالمين، ونفى الظلم عن نفسه في ثمانيةٍ وعشرين موضعاً منها، ويستحيل أن يحرم شيئاً على نفسه ويقبحه من غيره ثم يفعله وهو أعدل العادلين وأجلُّ المنعمين، والخوض في هذا مَنْهِيٌّ عنه، لأنه بحرٌ مغرقٌ ولكشفهِ ميعادُ يوم تُبْلَى السرائر.
فصلٌ:
والدليل علن أن توبة الزنديق لا تقبلُ قوله عز وجل: (إنَّ الذينَ كَفَرُوا بعدَ إيمانِهِمْ ثمَّ ازدادُوا كفراً لنْ تُقْبَلَ توبتُهم وأولئكَ همُ الضالُّونَ) والمعنى فيه: أن قليل الكفر وكثيره سواءٌ في استحقاق القتل واستيجاب النار، والتوبة مقبولةٌ في قليله وكثيره، فلا معنى لزيادة الكفر إلا إبطانَ الكفرِ وإظهارَ الإيمان.
واللهُ تعالى أعلم بكتابهِ وأسرار خطابهِ.
تمت الرسالة ولله الحمد والمنة.
¥