وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أستاذنا الكريم،الذي لمست فيك قبسا من العلم، وشهابا من الذكاء الوقاد ليس من مروري على هذه الصفحة فحسب بل إنما قبل ذلك عندما مررت، خلسة، على طرحك عن القاضي الجرجاني وما قاله، وسررت من بيتي الشعراللذين أوردتهما ووجهتما للمارين خلسة، هذا، وإن من واجبي أن أبين لك سبب عدم التعقيب هناك مادمت اخبرتك أني مررت، ولكن ذلك ربما يكون في رسالة خاصة، أو تعقيبا في نفس الصفحة الخاصة بالنقد، وسوف أتبين مما قلت بعد أن أراجع تلك الصفحة. وقبل الدخول إلى موضوع الخرم في العروض، أتقدم إلى حضرتك بالحمد الكثير لعاطفتك الصادقة نحو فلسطين مما يدل على صدق دينك وصدق اتتمائك إلى أمتك. إنني، بدوري، لا أذيع جديدا إذا قلت لك أن حبي للبلد الحرام مثلما هو حب كل مسلم، وتعلقي بمسكن المصطفى ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ كما يتعلق به كل مسلم، وباقي بلاد العرب والمسلمين أراها كبلادي تماما. أما شكرك فلا أقدر عليه مثلما قدرت على الحمد الذي لن يكلفني سوى تمتمات باللسان، أو طقطقات قليلة على لوحة المفاتيح التي أمامي.
أحب أن اعلمك بأني لست دارسا أكاديميا للعروض ولا لغيره، وإنما سليقة صقلها بعض المراس في الموروث والحديث من الأدب والشعر وغيرهما، فلا يغرنك مني ما يمكن أن يوهمك بالكثير، ولكني أتوكل على الله وأدلي بما يجول بين جوانحي من خواطر، بإيجاز، عسى أن يكون ما أبديه بعيدا عن الخلط الكثير أو، لا سمح الله، موضعا للسخرية، فأقول، وعمر القارئين يطول:
لم أجد الخرم في فعولن إلا في الطويل، وربما وجد في المتقارب او في مفاعيلن و مفاعَلَتن وانا لا ادري، وحتى الخرم في الطويل لا أعرف منه غير بيت أو بيتين أحدهما منسوب لامريء القيس، وهو:
شا قَتْكَ أحداجُ سُلَيْمى بِعاقِلٍ = فَعَيْناكَ لِلبَيْن ِ تجودان بالدمع ِ
وما دام هذا البيت منسوبا للملك الضليل فلا عجب ان يتخذ منه من تاخروا عنه قدوة تُحتذى في جواز الخرم في فعولن الأولى من الطويل، ولو كان هذا البيت لشاعر اقل شهرة من الملك لكان من المحتمل ان يتأنوْا في الحكم بجوازه، أو لا يجيزوه بالمرة مثلما فعلوا مع المرقش الأكبر الذي قالوا عنه انه وقع في الخلل في قصيدته التي يخاطب بها ديار حبيبته" أسماء"، حين يقول:
وَدِيارُ أسماء التي تبلت = قلبي فعيني ماؤها يَسجُمْ
ماذا علينا إن غزا ملكٌ = من آل جَفْنَة َظالِمٌ مرغمْ
هذه القصيدة اختلفوا ايضا في بحرها فقال بعضهم: إنها من الكامل، وقال أغلبهم: إنها من السريع، وهؤلاء قالوا ان المرقش خلط، ومنهم المعري، وقد حدث هذا لأنهم حكموا بقواعد الخليل على اشعار من سبقوه، وهم في ذلك وقعوا في وهم كبير على ما يرى بعض الباحثين، وأنا من صفّهم فيما رأوْا. إن الذين قالوا أن المرقش الكبير وقع في الخلل اعتبروا زيادة الواو أول البيت أنها غفلة من ناسخ أو سهو من راوٍ، ولو قالوا ما قالوا في واو محذوفة لا مثبتة لهان الأمر وقلنا نسي الناسخ كتابتها أو غفل الراوي عن روايتها، وحتى هذه لا تسلم، عندي، من العيب إن اخذنا باعتبارنا ان الراوي والناسخ إن لم يكونا شاعرين فلا بد ان يكونا خبيرين في اللغة واوزانها واوزان اشعارها، وأمينين في نقل ديوان آبائهم واجدادهم، وهؤلاء الذين حذفوا الواو حتي يتخلصوا من مُتَفاعلن فماذا، لعمرك، هم فاعلون ليتخلصوا منها في البيت الثاني؟
أخشى ما يخشاه الواحد منا ان يكون البعض من اجدادنا قاموا بتصحيح الكثير من الروايات التي اعتقدوا بطلان اوزانها قياسا على قواعد الخليل فيكونون بذلك قد اضاعوا منا وثاق هامة تبين لنا بعض ما خفي علينا في باب نشأة الشعر وتطوره.
أعود إلى العلل في التفاعيل فقد علمت من دكتور دمث الخلق غزير العلم، ويبدو ان له في موضوع العروض تخصصا، ألا وهو الدكتور عمر مخلوف ـ عبر متندانا هذا ـ علمت منه ان الزحافات والعلل منها ما وصل إلى الخليل من أشعار آبائه، ومنها ما جوّزه من هم بعد الخليل من العروضيين والشعراء ممن توسعوا في أشكال البحر الواحد، وعلمت من الدكتور ان للمتدارك، مثلا، عشرات الصورمع اننا قل أن نجد عليه من الأشعار عند الشعراء ممن سبقوا الخليل والأخفش. فهمت من هذا أن الأمرفي العلل والزحافات يعود أكثر ما يعود لذوق الشاعر ومن استحسن هذا الذوق من الناس. على أية حال، كلنا يعرف أن الشعر والموسيقى توأمان سياميان إن انفصلا هلكا، وإن عاشا بعد الانفصال عاشا في سبسب من التيه مليء بالسراب، ومن وهبه الله إحساسا ومراسا واعتناء بالشعروالموسيقى، فسوف يظل أقدر من غيره على تذوق الأوزان والحكم عليها، وليس الأمر، فيما ارى،ألصق بالدرس وتقعيد القواعد، أكثر مما هو بالذوق الموسيقي ألصق، وإن اختلفت الناس في الأذواق والأفهام فليس ذلك بغريب، إذ أنهم اختلفوا فيما هو أهم وأخطر من الشعر، ولولا فضل الله ورحمته بإرسال الرسل ما قدر أغلب الناس، ربهم، عز وجل، حق قدره. ولا عرفوا صفاته المقدسة.
بقي أن أذكر شيئا عن جدنا الخليل ـ عليه سحائب الرحمة ـ أوفيه النزر اليسير من حقه علينا، فقد أجهد نفسه أيما إجهاد، وأضناها أيما إضناء، وهو يقعد القواعد، ويؤصل الأشعار، وفضله على لسان العرب لا يخفى على كل ذي بصيرة، وحق له ان ينطبق اسمه على رسمه، فهو الخليل (ناحل الجسم) فعلا مما بذل وقدّم، ومما كان عليه من الزهد والترفع عن شهوات الحياة الفانية. رحمه الله رحمة واسعة.
معذرة على الإطالة، ولا تؤاخذني بما تأخرت به عليك من الرد، ودمت يا سيدي بحفظ الله ورعايته، وإلى لقاء مأمول بإذن الله.
¥