يقول المؤرخون: ذهب أحد علماء بيت الرافعي (وقد نسيت اسمه) إلى (استنبول) عاصمة الخلافة العثمانية، ليتسلم قرار تعيينه قاضيا لبلد من بلدان المسلمين، في أواخر العهد العثماني، فرأى في أحد حمامات (استنبول) العامة منكراً، فأمر بسجن وجلد مرتكب المنكر، وكان شاعراً، فلما نفذ الحكم ومضى، وانتهت مدة الحكم، قال المذنب يهجو الشيخ الرافعي (رحمه الله):
تاء أنعمت أتت مفتوحة = 2 3 2 1 3 2 2 3
لا لها من خافض أو رافع = 2 3 2 2 3 2 2 3
كل من جاء بها مرفوعة = 2 3 2 1 3 2 2 3
لعنة تلحق أم الرافع = 2 3 2 1 3 2 2 3
والتورية واضحة وصريحة في الروي من البيت الثاني ..
وأبيات البلادي الخمسة المكسورة، وهي من البحر المتقارب أيضاً، أدعها كما هي تتوح على ناظمها، ولا أكلف قلمي بتعديلها، لأنها أبيات مهزولة محصرمة ركيكة، لا تستحق القراءة، ولا تستدعي الاهتمام، وهي من شعر الشادين، الذين يقرزمون الشعر، ويأتون به كسيحاً، وهم يظنون أنهم يحسنون صنيعاً.
وكان شعر عاتق البلادي الذي ضمه كتابه (هديل الحمام)، يتبرأ الحمام منه، لأن هديل الحمام، ذلك الصوت الشجي، قد استدعى اهتمام شاعر فلسطين الكبير إبراهيم عبدالفتاح طوقان، فقال قصيدته الرائعة التي استهلها بقوله:
بيض الحمائم حسبهنه
أني أردد شد وهنه
رمز السلامة والوداعة
منذ بدء الخلق هنه
في كل روض فوق دانية
القطوف لهُنّ أنّه
وهي قصيدة جميلة بديعة، قرأتها في ديوانه المطبوع في مطابع دار الكشاف للنشر والتوزيع ببيروت في سنة 1375ه، وقد أهدى إليّ الديوان في سنة طبعه أستاذي وصديقي الشيخ أحمد علي أسد الله الكاظمي الحسيني (رحمه الله) وقد سطر شيخي أحمد علي إهداءه بخط يده الجميل في صدر الكتاب ..
ثم انتقل في قراءتي إلى كتاب (رجل من مكة)، للدكتور زهير محمد جميل كتبي، فأجد قصيدة للأخ عاتق البلادي، بعنوان (لله عين شاقها نجد)، فتذكرني بقصيدة (اليتيمة) لدوقلة المنبجي، وقد عزيت هذه القصيدة إلى سبعة عشر شاعراً، كل شاعر منهم يدعيها ..
وسبب تسميتها بذلك كما تقول كتب (القصص والحكايات): إن ملكة من ملكات اليمن، آلت على نفسها ألا تتزوج إلا بمن يقهرها بالفصاحة والبلاغة، ويذلها في هذا الميدان، فلم يتفق ذلك لأحد مدة طويلة، فسمع بها بعض الشجعان البلغاء، وجاء يطلب محلها، فمر ببعض أحياء العرب، فأضافه كبير الحي، وسأله عن حاله، فأخبره بما هو فيه، وأطلعه على القصيدة المذكورة (اليتيمة)، وكان ممن خطب المرأة سابقاً، فحمله الطمع على أن يرضخ رأس الرجل بحجر إلى ان مات، وأخذ القصيدة، ونسبها إلى نفسه، وذهب إلى المرأة ليخطبها، وذكر لها انه كفء لها، فقالت له: من أي الديار أنت؟، قال: من العراق، فلما اطلعت على القصيدة، رأت فيها بيتاً يدل على ان قائلها من تهامة، فصرخت بقومها، وقالت: الزموا هذا فإنه قاتل بعلي، فأخذوه وعذبوه، فأقر بما فعل، فرجعوا إليها به، فأمرت بقتله، فقتلوه. فآلت على نفسها ألا تتزوج بأحد بعده، كرامة لهذه القصيدة وقائلها.
والقصة كما ترى تحتاج إلى تدقيق وتمحيص، لأنها قصة مزخرفة مموهة، لا تستند إلى صحة وبرهان ..
وتبدأ قصيدة (اليتيمة) بقول الشاعر:
هل بالطلول لسائل ردّ = 2 2 3 1 3 3 2 2 = 4 3 ((4) 3 4
أم هل لها بتكلم عهدُ
درس الجديد جديد معهدها
فكأنما هي ريطة جَرْدُ
والقصيدة تتكون من ثلاثة وستين بيتاً، والبيت التي أشارت إليه المرأة هو:
إن تتهمي فتهامة بلدي
أو تنجدي يكن الهوى نجد
وهي قصيدة من روائع الشعر.
وقصة هذه القصيدة مع إحدى ملكات اليمن، القصة التي أشرت إليها آنفاً، لم تذكر لنا مظنة من المظان التي رجعت إليها لأستوثق منها صحة نسبة هذه القصيدة وأجد فيها خبراً وثيقاً عنها، مما جعل بعض المؤرخين ينسبونها إلى الشاعر علي بن جبلة (العكوّك) - بتشديد الواو - المتوفى سنة 213ه، وكان هذا الشاعر من أحسن الناس إنشاداً، وكان الأصمعي يحسده، وهو الذي لقبه (بالعكوك)، أي: الغليظ السمين، وكان أعمى أسود أبرص، قتله الخليفة المأمون، لما سمعه يسرف في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، الأمير القائد المعروف، حتى قارب الكفر في مدحه.
¥