ولقد اعتاص على هؤلاء أن يفرقوا بين شيئين، القدرة على التفريق بينهما: فيصل في فهم مقالة ابن تيمية وإعذاره. هو الفرق بين النوع والأفراد، فأفراد الخلق حادث، أما القديم فهو النوع. فادعوا بطلان هذا الفرق .. !!، والواقع والمثال يؤيد الفرق، فلو نظرنا في الأعداد، لوجدنا فرقا بين أفراده ونوعه، فكل رقم له بداية ونهاية، فالواحد (=1) يبدء من بعد الصفر (= 0)، وينتهي قبل بداية الرقم اثنين (=2)، وهكذا في 2،3،4، 5 .. إلخ، فأفراد الأعداد لها بداية ونهاية.
لكن لو نظرنا إلى العدد من جهة نوعه أو جنسه: فلا بداية ولا نهاية، فمهما افترضنا عددا، فقبله عدد، ومهما افترضنا عددا، فبعده عدد، وهكذا.
فهذا دليل واضح، وبرهان كلي، على صحة التفريق بين الفرد والنوع، فالفرد حادث، أما النوع فقديم، لا بداية له، ولا نهاية.
ثم إن هذا القديم، وهو النوع، ليس مقارنا مع ذلك، بل هو متراخٍ، فمفعولاته سبحانه وتعالى تقع بعد فعله، وفعله متأخر عن ذاته، فهو خالق، وقد خلق، ثم حدث المخلوق، ومثَله:
- الطلاق .. يقع بعد التطليق، والتطليق متأخر عن المطلق.
- والانكسار .. يقع بعد الكسر، وهو متأخر عن الكاسر ..
- فترتيتبه: القاطع، ثم القطع، ثم الانقطاع، فهي أمور متتالية، ليست مقترنة.
فلم يلزم إذن من القول بقدم النوع: قدم العالم. وثبت بذلك أن قول ابن تيمية ليس كقول الفلاسفة.
* * *
تلك هي صورة المسألة بإيجاز، وقد استند المتكلمون على حديث عمران بن حصين رضي الله عنه المشهور: (كان الله ولم يكن شيء قبله)، في تأييد رأيهم: أن للخلق ابتداء. حيث جاء الإخبار فيه:
- عن وجود: العرش، والماء، قبل خلق السموات والأرض.
- وأنهما أول هذا العالم المشهود.
- وأن الله عز وجل قبل كل شيء.
وقد اعترض ابن تيمية على هذا الاستدلال، ورأى فيه خروجا عن معنى الحديث إلى معنى غير مراد، فكتب لأجله مؤلفا مستقلا عنوانه: "شرح حديث عمران"، نقد فيه المعنى الذي رجحه المتكلمون من ناحية: حديثية، وعقدية. ولأجله اضطر للدخول في مسألة: "تسلسل الحوادث"، وما يترتب عليها من البحث في قضية قدم العالم، فكان له فيها رأي خاص، كما تقدم آنفا، تشابه ظاهرا مع رأي الفلاسفة القائلين بقدم العالم، مما فتح الباب للطعن في عقيدته .. !!.
وفي هذا البحث نعرض لهذه المسألة، ونرى ما يمكن أن يكون مقارنا للحق، وقد تضمن ما يلي:
أولاُ: سرد طائفة من روايات الحديث، للاستفادة من الزيادات الواردة لتجلية المعنى.
ثانيا: الترجيح بين الألفاظ، لتحديد اللفظ الأصوب، لما فيه من حسم لمادة الخلاف.
ثالثا: التعرض للمسائل العقدية في الحديث، وهما مسألتان مهمتان، هما:
- المسألة الأولى: معنى قوله: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر، ما كان؟).
- المسألة الثانية: معنى قوله: (كان الله ولم يكن شيء قبله).
وقد تعرضت فيها لقول الفلاسفة والمتكلمين وابن تيمية، وبحثت في صحة ما نسبه ابن تيمية إلى السلف من رأي في هذه المسألة الكبيرة .. وأشكر الله تعالى أن وفق إلى ذلك.
* * *
ـ[الأزهري السلفي]ــــــــ[22 - 02 - 08, 12:55 م]ـ
الحمد لله وحده ..
جزاك الله خيرا
بانتظار إكمال الموضوع فلا أريد أن أستفسر عن شيء قبل إتمامه.
ـ[أحمد أبو العباس]ــــــــ[22 - 02 - 08, 01:14 م]ـ
الأستاذ لطف الله:
قولك في شرح مذهب المتكلمين في بدأ الخلق: - أن الله تعالى ابتدء خلق العالم من نقطة زمن معينة، ما قبلها لم يكن يخلق، ولا يفعل، ولا يتكلم .. إلخ، وأوجبوا منعه من ذلك، حتى يستقيم إثبات الخالقية.
قولك هذا يقتضي أنهم أثبتوا وجود الزمن مع الله تعالى في الأزل، وأنه الله تعالى اختار نقطة معينة من ذلك الزمن لبدأ الخلق، فهل من توثيق لهذا المدعَى؟ أم هو لازم لهم؟ وإذا كان لازما لهم فهل من بيان لذلك اللزوم؟
يتبع ...
ـ[لطف الله خوجه]ــــــــ[28 - 02 - 08, 04:52 م]ـ
السلام عليكم جميعا ..
وبعد:
فمن أراد الموضوع كاملا، فهو في الرابط، يرجع إلى صفحة مجلة الجامعة، بالعدد المذكور، ثم يحمله في الجهاز ..
الأخ أحمد أبو العباس ..
ما نقلته في المقدمة هو من تعبيري للإفهام والتقريب، وليس قولا وقفت عليه للمتكلمين ..
وأنبه الإخوة الفضلاء، من أراد أن ينظر في الموضوع ويدلي برأي نافع بعون الله تعالى: أن تعليقي ونظري يتردد بين مدد ليست بالقصيرة ..
والله مع الجميع ..
ـ[نضال مشهود]ــــــــ[05 - 03 - 08, 02:31 ص]ـ
نحسب أن المقال جيد نسبيا، لكن تنقصه الدقة في فهم صنيع شيخ الإسلام. ويظهر ذلك في هذه الفقرة:
" أن الله تعالى لم يكن معطلا من الخلق، أو الفعل، والكلام زمنا، بل يفعل ما يشاء، متى شاء، من غير تحديد بنقطة زمن معينة، هي البداية، وقرر أن هذا هو مقتضى القدرة الإلهية الكاملة، وأنه ما من زمن يقع فرضا لبداية الخلق، إلا وصح وقوعه قبله، إذ لا مرجح يحدد البداية في نقطة معينة، ومن ثم فلا مانع من بدء الخلق معه، لكن بشرط التراخي في الزمان، ويكون هذا الخلق متعلقا بالنوع لا بالأفراد، واستحسن هذا الرأي، وذهب لأجله إلى أن الحوادث لا أولها، فأجرى التسلسل في المفعولات الإلهية في الأزل (= الماضي)، كما أجراه في الأبد (= المستقبل)، ونسب هذا القول إلى السلف، وفسروا نصوصهم على هذا المعنى، وقرر أن المتكلمين خرجوا عن طريقة السلف ونصوص الوحي في تقريرهم، فضلا عن الفلاسفة، الذين كفرهم العلماء، كالغزالي، بسبب مقالتهم بقدم العالم. "
¥