و ابن خلدون الذي كان أقواهما حجة، إذا يقول: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل و العقد عليه - و حينئذ من بني أمية - ثم يضيف قائلاً: و إن كان لا يظن بمعاوية غير هذا، فعدالته و صحبته مانعة من سوى ذلك، و حضور أكابر الصحابة لذلك، وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب منه، فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم - كلهم - أجلّ من ذلك، و عدالتهم مانعة منه. المقدمة لابن خلدون (ص210 - 211).
و يقول في موضع آخر: عهد معاوية إلى يزيد، خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه، مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه، و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشا لله لمعاوية من ذلك. المقدمة (ص206).
قلت: و قد رأى معاوية رضي الله عنه في ابنه صلاحاً لولاية خلافة الإسلام بعده و هو أعلم الناس بخفاياه و لو لم يكن عنده مرضياً لما اختاره.
و أما ما يظنه بعض الناس بأن معاوية كان أول من ابتدع الوراثة في الإسلام، فقد أخطأ الظن، فدافع معاوية في عهده لابنه يزيد بالخلافة من بعده، كان محمولاً على البيعة من الناس و ليس كونه محمولاً على الوراثة، و لو كان ما رآه هو الأخير لما احتاج إلى بيعتهم بل لاكتفى ببيعته منه وحده.
فإن قيل لو ترك الأمر شورى يختار الناس ما يرونه خليفة من بينهم، قلنا قد سبقه بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بيعته لأبي بكر يوم السقيفة، و سبقه أبو بكر أيضاً في وصيته لعمر بولاية العهد من بعده، و ما فعله عمر حين حصر الخلافة في الستة.
و الغريب في الأمر أن أكثر من رمى معاوية و عابه في تولية يزيد و أنه ورثّه توريثاً هم الشيعة، مع أنهم يرون هذا الأمر في علي بن أبي طالب و سلالته إلى اثني عشر خليفة منهم.
و ليس افضل - قبل أن ننتقل إلى موضوع آخر - من أن نشير إلى ما أورده ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم من رأي لأحد أفاضل الصحابة في هذا الموضوع، إذ يقول: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه فيها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا: نعم، قال: و أنا أقول ذلك، و لكن و الله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلىّ من أن تفترق. العواصم من القواصم (ص231).
و هل يتصور أيضاً ما زعم الكذابون، من أن معاوية رضي الله عنه كان غير راض عن لهو يزيد وفسقه، و شربه، و أنه أكثر من نصحه فلم ينتصح، فقال – لما يئس من استجابته -: إذاً عليك بالليل، استتر به عن عيون الناس، و إني منشدك أبياتاً، فتأدب بها و احفظها، فأنشده:
انصب نهاراً في طلاب العلا * واصبر على هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجى * واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب
كم فاسق تحسبه ناسكاً * قد باشر الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره فبات في أمن و عيش خصيب
و لذة لأحمق مكشوفة * يشفي بها كل عدو غريب
كذا قال الكذابون الدهاة، و لكن فضحهم الله، فهذه الأبيات لم يقلها معاوية رضي الله عنه ولم تكن قيلت بعدُ، ولا علاقة لها بمعاوية ولا بيزيد، ولا يعرفها أهل البصرة، إلا ليحيى بن خالد البرمكي، أي الذي عاش زمن هارون الرشيد، أي بعد معاوية و ابنه بنحو مائة عام. أنظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (65/ 403).
بعض من الأحاديث المكذوبة في حق يزيد
و قد زورت أحاديث في ذم يزيد كلها موضوعة لا يصح منها شيء فهذه بعضها، و إلا فهناك الكثير:-
منها قول الحافظ أبو يعلى: عن أبي عبيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد. هذا الحديث و الذي بعده منقطعة بل معضولة، راجع البداية و النهاية (8/ 231).
و حديث آخر أورده ابن عساكر في تاريخه، بلفظ: أول من يغير سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد. تاريخ دمشق (18/ 160)، و قد حسن الشيخ الألباني سنده، و قال معلقاً عليه: و لعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة، و جعله وراثة، و الله أعلم. الصحيحة (4/ 329 - 330). قلت: الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني دون زيادة لفظة (يقال له يزيد)، أما قوله بأن المراد تغيير نظام اختيار الخليفة و جعله وراثياً، فإن معاوية رضي الله عنه هو أول من أخذ بهذا النظام و جعله وراثياً، إذاً فالحديث لا يتعلق بيزيد بن معاوية بعينه، و الله أعلم.
و منها أيضاً قول: لا بارك الله في يزيد الطعان اللعان، أما أنه نُعي إلي حبيبي حسين. تلخيص كتاب الموضوعات لابن الجوزي، للإمام الذهبي (ص159).
علاقة يزيد بآل البيت رضي الله عنهم
و لم يقع بين يزيد و بين أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعكر العلاقة و القرابة بينهما سوى خروج الحسين و بعض أهله و مقتلهم على يد أهل العراق بكربلاء و مع هذا فقد بقيت العلاقة الحسنة بين يزيد و آل البيت و كانوا أولاد عمومته و نراهم قد اجتنبوا الخروج عليه أيام الحرة و مكة بل كانت صلته بعلي بن الحسين و عبد الله بن العباس و محمد بن الحنفية أيام الحرة جيدة. أما عبد الله بن جعفر فقد كانت صلته بمعاوية و يزيد من بعده غاية في المودة و الصداقة والولاء و كان يزيد لا يرد لابن جعفر طلباً و كانت عطاياه له تتوارد فيقوم ابن جعفر بتوزيعها على أهل المدينة، و كان عبد الله بن جعفر يقول في يزيد أتلومونني على حسن الرأي في هذا. قيد الشريد في أخبار يزيد (ص35).
¥