1. أن المشتغل في النسب قد يدَّعي نسبا بلا حجة أو ينفي نسب أحد بلا برهان، والدافع إلى ذلك إما أن يكون الهوى أو العجلة وعدم التثبت، والعجلة في مثل مباحث الأنساب مزلة أقدام، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال صلى الله عليه وسلم: (كفر بامرئ ادعاء نسب لا يعرف أو جحده وإن دق). وفي رواية أحمد:"كفر تبرؤ من نسب وإن دق أو ادعاء إلى نسب لا يعرف"، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة له على الملأ:"كفر بالله ادعاء إلى نسب لا يعرف، وكفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق".
2. الإيغال في الأنساب القديمة وقد روى خليفة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا أنتسب إلا إلى معدّ وما بعده لا أدري ما هو. وروى عن عكرمة قال: أضلت نزار نسبها من عدنان وأضلت اليمن نسبها من قحطان. وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهى في النسب إلى معد بن عدنان أمسك ثم قال: كذب النسابون، قال تعالى: (وقرونا بين ذلك كثيرا). وورد عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ولو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه، وقال:بين معد بن عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أبا. وورد عنه أنه لما وصل إلى عدنان قال: كذب النسابون. وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله ... )،فقال: كذب النسابون. وذكر ابن كثير في ترجمة الإمام أحمد نسبه إلى إبراهيم عليه السلام ثم ذكر عن صالح بن الإمام أحمد أنه قال: رأى أبي هذا النسب في كتاب لي، فقال: وما تصنع بهذا؟ ولم ينكر النسب. فقد يكون أنكر ثبوت النسب بعد عدنان وقد يكون إنكاره لاشتغال ابنه بالنسب عما هو أهم منه.
وقد كان العرب يعيبون من يجهل نسبه إلى عدنان، ويدلك على هذا قول لبيد
فإن لم نجد من دون عدنان والدا ودون معد فلترعك العواذل
3. أنه قد يؤدي إلى الإعجاب بالنسب أو بشرف الآباء،ولو تفكر العبد لوجد أن الناس كلهم ولد آدم الذي خلقه الله تعالى بيده وأسكنه جنته وأسجد له ملائكته وما أقل نفعه قيهم وفيهم كل عيب وكل فاسق، والعامة تقول في أمثال هذا المعجب بآبائه: كالخصي يُزهى بذكر أبيه، وأبو لهب من هو في قربه وشرف نسبه ولم ينفعه ذلك، وأبو إبراهيم وابن نوح لم ينفعهم شرف نسبهم وقربهم من أنبياء الله. والإعجاب بالنسب لا يدفع جوعا ولا يستر عورة ولا ينفع في الآخرة، فهو بحق ضعف عقل وقلة دين، وقد قال شيخ الإسلام: فإن كان الرجل من الطائفة الفاضلة فلا يكون حظه استشعار فضل نفسه والنظر إلى ذلك فإنه مخطئ في هذا لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش. وقد روى ابن عمر رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم:" فتنة الأحلاس هرب وحرب ثم فتنة السراء دخنها من تحت قدم رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني وليس مني وإنما أوليائي المتقون ... "، فشرف النسب لا يدل على شرف الشخص.
4. أن معرفة المرء لعلو نسبه قد يؤدي به إلى ترك اكتساب الآداب والفضائل اتكالا على حسبه وما أحسن قول ابن الرومي:
وما الحسب الموروث لا درَّ درُّه بمحتسب إلا بآخر مكتسب
فلا تتكل إلا على ما فعلته ولا تحسبن المجد يورث بالنسب
فليس يسود المرء إلا بنفسه وإن عد آباء كراما ذوي حسب
إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة من المثمرات اعتدَّه الناس في الحطب
وللمجد قوم ساوروه بأنفس كرام ولم يعبوا بأم ولا أب
والعاقل من يكون عصاميا لا من يكون عظاميا كما قال المتنبي:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبجِدِّي سموت لا بجدودي
وما أصدق قول الشاعر:
حسبي فخاراً وشيمتي أدبي ولست من هاشم ولا العرب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
وقول الآخر:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك موروثه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
وقد كان والد أبي الفتح عثمان بن جني النحوي اللغوي المشهور عبدا روميا، وقد عُيِّر بذلك فقال:
فإن أصبح بلا نسب فعلمي في الورى نسبي
على أني أؤول إلى قُرُومٍ سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا أرَم َّ الدهر ذو الخطب
أولائك دعا النبي لهم كفى شرفا دعاء نبي
ومما ينسب إلى علي رضي الله عنه:
لكل شيء زينة في الورى وزينة المرء تمام الأدبْ
¥