وإذا كانت قد برزت مرحلة جديدة عند ابن إسحاق والواقدي في التدوين التاريخي فإن مدرسة العراق التاريخية قد تلت المدرسة الأولى في المدينة، وعرف الإخباريون الأوائل في الكوفة والبصرة، كأبي مخنف لوط بن يحيى (ت 147هـ) وهو إخباري من أهل الكوفة واضح النزعة العقدية وله تأليف عن مقتل الحسين، وآخذ الثأر ويقصد به المختار صاحب الكيسانية الخشبية، وتآليف في الردة والفتوح والجمل وصفين ومقتل حجر بن عدي، وكعوانة بن الحكم وهو إخباري كوفي (ت 147هـ) كان على دراية بأخبار الفتوح مع علم بالشعر والأنساب، وقيل أن موقفه كان حيادياً بين الأمويين والعلويين، وتتلمذ على يديه الهيثم بن عدي وهو إخباري مثله لم تهمله المصادر مع ما قيل من ولعه بالمعايب والتأليف بالمثالب. وتتلمذ على يدي عوانة المدائني (ت 225هـ) وهو إخباري أيضا اقترب من أسلوب المحدثين في نقد الروايات.
ومن إخباريي الكوفة محمد بن السائب الكلبي (ت 146هـ) اختص بدراسة الأنساب، وورث عنه ابنه هشام ابن الكلبي (204هـ) المتقدم ذكره هذا الاهتمام. وظهر من أهل هذا العلم الزبير بن بكار وأبو اليقظان النسابة.
وعرف من بين الإخباريين في الكوفة سيف بن عمر (180هـ) وهو عراقي معتدل، كما يقول محب الدين الخطيب، وقد أخذ عن شيوخ الكوفة كما أفاد من الروايات المدينة، وله كتاب عن الفتوح والردة ومسير على وعائشة حققه الدكتور قاسم السامرائي وظهر بطبعته الثانية حديثا.
المؤرخون:
ويأتي بعد الإخباريين الأوائل المؤرخون، وقد اهتم الطبري منهم بالإسناد وتسلسل الرواة شأن الإخباريين. ثم تحررت الكتابة التاريخية من هذه الطريقة إلى الكتابة المرسلة، وظهر هذا واضحاً جليا عند اليعقوبي (ت 284هـ) والمسعودي (346هـ) اللذين اكتفيا بالإشارة إلى المصادر مع دراسة نقدية في بعض الأحيان كما فعل المسعودي في مروج الذهب.
طريقة التأليف وصور المادة التأريخية:
على أن التحرر من الإسناد قد رافقه وأتى بعده تطور في الطريقة والأسلوب في فن الكتابة التاريخية. وحتى منهج الكتابة الذي كان يعتمد على ذكر الأخبار حسب السنين، وهو ما يعرف بالحوليات، اتجه إلى التأكيد على أهمية القيمة الخبرية للحادثة ومراعاة تتابع عناصرها لاستيعاب الموضوع بعدم تجزئة الواقعة. وكان الطبري في مقدمة أصحاب الحوليات. أما ابن الأثير، وهو ممن أفاد منه، فقد حاول التخلص من ربط الحوادث بالسنيين، وإن كان قد سار عليه بأن عنون للموضوعات وتخلص من الإسناد محافظة على وحدة الحادثة الواحدة.
وفي هذا المنهج أيضا طريقة أخرى وهي التأليف حسب الموضوعات، وعلى هذا النويري (732هـ). والتاريخ حسب الموضوعات إمّا تاريخ للأسر الحاكمة والدول والعهود كما فعل الدينوري في الأخبار الطوال، أو تاريخ حسب الطبقات مثل تصنيف ابن سعد وأبي يعلى.
والمادة التاريخية تتنوع صورها بين تاريخ عالمي عام كالطبري واليعقوبي وآخرين كمسكوية وابن العبري والثعالبي، وبين تاريخ محلي وطني كتأريخ السلامي عن ولاة خراسان وتأريخ طيفور عن بغداد وابن حيان عن الأندلس وابن العديم عن حلب.
علاقة الحديث بالتأريخ:
وفي علاقة الحديث بالتأريخ يلاحظ أن على رواية الحديث تبنى الأحكام وتقام الحدود، فهي تتصل مباشرة بأصل من أصول التشريع وهو السنة النبوية. ولذلك فإن ثقات المحدثين وضعوا رواة الحديث في موازين دقيقة بقدر الإمكان وعرفوا كل راوٍ: تاريخه وسيرته، ووضعوا من أجل هذا قواعد للجرح والتعديل.
وبحث المحدثون كيحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وابن أبي حاتم الحنظلي في الرواة وهل تلاقى الراوي والمروى عنه، وبينوا مقدار درجة كل راوٍ من الثقة. وليس الأمر في التاريخ كشأن الحديث، وموضوعاتهما مختلفة. وكما نظر ابن خلدون في النقد التاريخي وأن التمحيص يجب أن ينصب على نص الحادثة فإن المتكلمين بالغوا في محاولة إخضاع الحديث لحكم العقل وعرضه بالعلل الكلامية.
والإخباريون ضعفاء في مجملهم عند المحدثين منذ محمد ابن إسحاق، وللمحدثين شروطهم في المجال المشار إليه، وقواعدهم في مجال النقد الحديثي لازمة لدقته، ومع قرب الإمام الشافعي منهم فقد انتقده بعضهم كابن معين وابن عبد الحكم في طريقة الرواية.
¥