أما الرابعة فهي: إن النكارة إنما جاءت لهذه الحديث من قبيل الزيادة التي قراد أبو نوح، وهي ذكر أبى بكر وبلال في الحديث، مع إن عمر أبى بكر في هذا الوقت لم يكن يزيد على عشر سنوات، وإنه لم يكن قد اشترى بلالاً بعد، وهي زيادة منكرة حقا، إلا إنها تدل على خطأ قراد – رواى الحديث – أو يونس بن أبى إسحاق – الذي رواه قراد عنه، لكنها لا تفدح في أصل الحديث الذي رواه جماعة كثيرة من الرواه.
من هنا نميل إلى صحة الرواية وقبولها – على النحو الذي رواه نعيم في " دلائل النبوة " من حديث على، وهي أخصر الروايات، وقد ذكرها السيوطي في الخصائص ولم أجدها في نسختي من دلائل النبوة لأبى نعيم.
خيانة استشراقية:
فإذا ما عدلنا عم هذا الجو العلمي – الذي أشاعه البحث في خبر " بحيرا " الراهب – إلى النظرة الاستشراقية لهذا الخبر – فسنشعر بغير قليل من رائحة التدني المنهجي والزيف العلمي، فتحت اسم " بحيرا " من دائرة المعارف الإسلامية () كتب المستشرق " فنسنك " بحثاً لخص فيه القصة، ثم قال:
" وهذه القصص قسم خاص من الأساطير التي أحاطت بسيرة النبي ?، ولها نظائر كثيرة من النوع نفسه وكلها ترمى إلى أن أهل الكتاب عرفوا من كتبهم من قبل بعثة النبي ?.
وهذا " الصنيع من (فنسنك) يحاول أن يسجل حكما عاماً على كل الأخبار التي تواترت بتعرف الأحبار والرهبان والكهان على النبي ? قبل مولده، وقبل مبعثه، وبعد مبعثه، وهو صنيع يضرب ببديهيات المنهج العلمي عرض الحائط، إذ لا يدخل في غمار البحث المنهجي حول رواية القصة ونقلتها، والدراسات التي صيغت حولها، وإنما يبادر إلى القول الفج غير المعلل بأنها أسطورة، ويلحق هذا اللهاث الجري بلهاث آخر ينهى فيه القضية من أساسها، فيرى إن (نظائرها) من هذا النوع الأسطوري نفسه ومن هنا يقوض – بأمنيته – مبدأ إن أهل الكتاب قد تعرفوا على بعثة محمد من خلال كتبهم، على الرغم من إنه مبدأ موجود في القرآن الكريم أصلاً وليس مستقى من هذا القصص، وإن كانت هذه القصص تعد تأكيدا وتطبيقاً لهذا المبدأ القرآني.
أما أن المجال مجال مناقشة هذه النتيجة فلا وإنما المراد هو إطلاع القارئ على صورة البحث العلمي عند المسلمين وصورة هذا البحث العلمي عند رؤوس الاستشراق، وطريقتهم في الاستنتاج. ولكن مضرب المثل في الوقاحة الدراسية – إن صح التعبير – هو ما اكتشفه فنسنك حول شخصية بحيرا، والذي حرص على ذكره، وهو إن " الروايات الإسلامية حول شخصية بحيرا قد جمعت كلها بالتفصيل في (سفر بحيرا) لكاتب مسيحي في حوالي القرن الحادي عشر أو الثاني عشر – يدعى " إشو عيب " وقد ورد في الكتاب كيف لقن سرجيوس (وهو الاسم الحقيقي لبحيرا) محمداً ? عقيدته وشرائعه وأجزاء من القرأن، وذلك بقصد إن يجعل العرب يعترفون بإله واحد.
ولم يعلق الأستاذ العالم المنهجي (فنسنك) بحرف واحد يدل على القيمة التاريخية لهذه المقولة، وكأن الروايات إذا أريد بها إظهار معرفة أحبار أهل الكتاب برسول الله صلوات الله عليه قبل مبعثه فهي أساطير كلها، وإذا أريد بواحدة منها إن " محمداً نبي كاذب كان يتلقى توجيهه من راهب ملحد " فهاهنا لا تعليق. وهذا هو نتاج المنهج العلمي والأمانة العلمية عند المستشرقين.
أول الخلق:
إلا إن قصة " بحيرا " لم تسجل في الضمير الشعبي للأمة مثلما سجلت مجموعة من التصورات والمواقف حول النبي المبارك الكريم، وهذه التصورات والمواقف محتاجة إلى عرضها على ميزان النقد العلمي الذي رأيناه آنفاً عند المسلمين، فكثير من المآذن في (مصر) مثلاً تردد – بعد الأذان – الصلاة على (أول خلق الله)، ومع ذلك لم يتبادر إلى ذهن أحد من المصلين إن المقصود هنا هو (آدم) عليه السلام، وإنما المستقر في ضميرهم جميعاً – سواء أقره بعضهم أو رفضه البعض الآخر – هو إن أول خلق الله هو محمد ?، وقد تضافرت على صنع هذا التصور مجموعة من الأحاديث لمشتهرة على اللسنة، مثل:
• كنت أول الناس في الخلق وأخرهم في البعث ".
• كنت أول النبيين في الخلق وأخرهم في البعث ".
وهذه الأحاديث وما في معناها ليس مما يتوقف عندما لوهاء أسانيدها ():
¥