وشرح هذا الضابط قد يطول، لكني سأكتفي بأمثلة تبين بعض جوانبه: إذا جئت للسيرة النبوية، أجد أن أخبارها منها ما يمكن أن يستنبط منه حكم شرعي: فهذا من السنة التي تنتقد بذلك المنهج المحتاط لها، ومنها ما لا يستنبط منه حكم شرعي، كتاريخ سريّة من السرايا، وعدد من كان فيها، وتحديد موقعها بدقّة، ونحو ذلك: فهذه لا نطبق عليها منهج المحدثين؛ إلا إن كان بعض ذلك له علاقة غير مباشرة باستنباط حكم، كمعرفة تقدم خبر أو تأخره ليفيدنا ذلك في الناسخ والمنسوخ، أو غير ذلك: فيمكن حينها أن أعود إلى احتياط المحدثين مع السنة في نقدي لهذا الخبر.
وإذا جئت للآثار الموقوفة على الصحابة –رضي الله عنهم-:
-فإن منها ما يكون له علاقة بالأحكام كفتواهم وأقضيتهم، فإذا كنت سأعتمد على قول صحابي في مسألة لا نص فيها –على سبيل المثال-: فسأحتاط في نقدها وفق منهج نقد أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا بد من ذلك فيها، أما إذا كانت المسألة فيها نصٌ صحيح، فإن إيراد أقوال الصحابة بعد ذلك يكون استئناساً وتأكيداً لصحة فهمنا لذلك النص، فإن نقدنا ذلك الخبر بالاحتياط المذكور آنفاً فهو حسن، وإن لم نفعل ذلك فالأمر واسع، ولن نضر المسألة العلمية شيئاً، لورود النص فيها.
ومنها ما يكون من باب الأخبار التاريخية: كأخبار الفتوح والغزوات ونحوها، وهذه حكمهما حكم السيرة النبوية، فإذا جئنا لأخبار ما وقع بينهم في الفتنة، فواجب حينها أن تنقد بالاحتياط المذكور لأحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا يجوز غير ذلك، وذلك اتّساقاً مع الضابط الكلّي الذي وضعناه آنفاً، وليس استثناءً –خارجاً عن القانون-، حيث إن أخبار الفتنة ليست أخباراً مجربةً لا ينبني عليها أحكام على أشخاص، بل هي أخبار إذا ذكرت لا بد أن تترك في النفوس أحكاماً على الأشخاص بالصواب أو الخطأ وربما بالعدالة أو الفسق عند بعض الأقوام، وهؤلاء الأشخاص الذين ستصدر عليهم تلك الأحكام هم أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين-، وهم من سبق لهم من الله –تعالى- ورسوله –صلى الله عليه وسلم- الثناء والحكم بالعدالة، فلا بد من تمحيص تلك الأخبار، خاصة أنها أيضاً كانت مجالاً رحباً لأصحاب الأهواء وأمراض النفوس من أهل الغلّ والحقد على دين الله –تعالى-، وعلى أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- للتقوّل والافتراء.
على أنه يمكن أن نعامل الأخبار المتعلقة بالفتنة أو ما كان بنحوها بمنهج وسط، وهو أنه إذا ثبت عندنا بالمنهج الحديثي المحتاط أصل خبر من الأخبار أن نتمّم جوانب هذا الخبر بتفاصيل من بقية الأخبار، بشرط أن لا يكون في تفاصيل تلك الأخبار شيء يعارض الحكم الثابت لأصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- من الخيرية والعدالة والفضل، وأن لا يعارض أصل الخبر الثابت أيضاً.
والمثال الواقعي لذلك: أنني كنت من سنوات كثيرة قد درست الأخبار الواردة في قصة خالد بن الوليد –رضي الله عنه- مع مالك بن نويرة في حروب الردّة، وهي قصة شهيرة، نسج عليها الأفّاكون وأذنابهم من المستشرقين قصصاً شنيعة، فوجدت أن أحد الباحثين ردّ القصة بالكلية، وخرج بنتيجة، وهي: أن مالك بن نويرة كان مرتداً كافراً، وأنه قتل بسيف الشرع، مع أن مالك بن نويرة –رضي الله عنه- لم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة، وهذا هو الظاهر من شأنه.
وبعد دراسة أسانيد الخبر، تبين لي أنه لا يصح منها إلا إسناد واحد، أخرجه خليفة ابن خياط في تاريخه (105)، يقول فيه ابن عمر –رضي الله عنهما-: "قدم أبو قتادة على أبي بكر، فأخبره بمقتل مالك وأصحابه، فجزع من ذلك جزعاً شديداً، فكتب أبو بكر إلى خالد، فقدم عليه، فقال أبو بكر: هل يزيد خالد على أن يكون تأوّل فأخطأ؟ وردّ أبو بكر خالداً، وودى مالك بن نويرة، وردّ السبي والمال".
فهذا الخبر على وجازته: أثبت أصل القصّة ووضع كل أمر في نصابه، واعتذر لخالد –رضي الله عنه- ونفى تلك التهمة القبيحة عن مالك بن نويرة بدفع أبي بكر ديته إلى أوليائه.
يبقى أن في بقية الأخبار تفاصيل أخرى لا يمكن أن نفهم الخبر السابق بغير الاطلاع عليها، فما العمل تجاهها؟
فالعمل، هو: أن نأخذ من تلك الأخبار ما يوافق هذا الخبر الثابت من جهة، وما لا يقدح في عدالة الصحابة الثابتة بالنصوص القطعيّة من جهة أخرى؛ لأنها أخبار لا تثبت أسانيدها أولاً، وثانياً: لأن ما عارض تلك الثوابت سيعد منها منكراً، ليس من العدل والإنصاف أن نجعله متساوياً لتلك الثوابت، فضلاً عن أن نعتمده، فنكون قد قدّمنا ما حقه الإبعاد، ونستحق بذلك –عياذاً بالله- أن نعد من أهل الهوى والظلم في الأحكام.
فإذا جئنا لأخبار تاريخية بعد ذلك، مما وقع في القرن الهجري الثاني أو الثالث، فالأصل فيها إمرارها والاستفادة منها دون نقد حديثي محتاط، إلا إذا أراد أحد أن يصدر حكماً دينياً على شخص من الأشخاص له حرمة دينية، وهو أن يكون مسلماً –كبعض الملوك والسلاطين- فإننا لا نقبل ذلك إلا بنقد يثبت بمثله الحكم الديني، هذا إن كان لمثل هذا البحث ثمرة علمية، أما إن لم يكن له ثمرة، أو كان له ثمرة خبيثة؛ فينهى عن مثل هذا البحث، وعن إضاعة الوقت فيه.
وإذا جئنا إلى سير العلماء وأخبارهم، فالضابط الكلي سائر على تراجمهم، فإن ما يرد في تراجمهم إذا كان سيصدر عنه حكم ديني، وضعناه في معياره المحتاط، وأوضح صور هذا الحكم الديني عبارات الجرح والتعديل في رواة السنة، وإن كان بخلاف ذلك، كقصة البخاري السابقة، أو كعبارات في الوعظ والحكمة، أو كذكر مؤلفاتهم، أو وصف مكتباتهم، ونحو ذلك من الأخبار، فهذه لا تنقد بذلك النقد المحتاط، ولكن تنقد لمعايير أخرى، تراعي المعقول وغير المعقول، والثقة بناقل الخبر أي: المصدر ومؤلفه، وغير ذلك من القرائن المحتفّة بكل خبر منها، وللمصلحة الحاصلة من نقده أيضاً.
هذا ملخّص ما ترجح لدي في شأن نقد القصص والأخبار التاريخيّة، والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المرجع: http://www.islamtoday.net/questions/show_question_*******.cfm?id=7106
¥