أحدها: علمه بأنه مقتول مظلوم، لا شك فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه: إنك تقتل مظلوماً فاصبر، فقال: أصبر. فلما أحاطوا به علم أنه مقتول و أن الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم له حق كما قال لا بد من أن يكون، ثم علم أنه قد وعده من نفسه الصبر فصبر كما وعد، وكان عنده أن من طلب الانتصار لنفسه و الذب عنها فليس هذا بصابر إذ وعد من نفسه الصبر، فهذا وجه.
و وجه آخر: و هو أنه قد علم أن في الصحابة رضي الله عنهم قلة عدد، و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم، فلو أذن لهم بالحرب لم يأمن أن يتلف من صحابة نبيه بسببه، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم؛ لأنه راع و الراعي واجب عليه أن يحوط رعيته بكل ما أمكنه، ومع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه، و هذا وجه.
و وجه آخر: هو أنه لما علم أنها فتنة و أن الفتنة إذا سل فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق، فلم يختر لأصحابه أن يسلوا في الفتنة السيف، و هذا إنما إشفاقاً منه عليهم هم، فصانهم عن جميع هذا.
و وجه آخر: يحتمل أن يصبر عن الانتصار ليكون الصحابة رضي الله عنهم شهوداً على من ظلمه و خالف أمره و سفك دمه بغير حق، لأن المؤمنين شهداء الله عز وجل في أرضه، و مع ذلك فلم يحب أن يهرق بسببه دم مسلم ولا يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراقه دم مسلم، و كذا قال رضي الله عنه. فكان عثمان رضي الله عنه بهذا الفعل موفقاً معذوراً رشيداً، و كان الصحابة رضي الله عنهم في عذر، و شقي قاتله.
و مما سبق نعلم أن منهج عثمان رضي الله عنه أثناء الفتنة و مسلكه مع المنافقين - هذا مصطلح نبوي أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم على الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه، لحديث (… فأرادك المنافقون أن تخلع .. الخ، تقدم تخريجه -، الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث، ولا ضغط الواقع، بل كان منهجاً نابعاً من مشكاة النبوة، حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر و الاحتساب و عدم القتال حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وقد وفىّ ذو النورين رضي الله عنه بوعده و عهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم طوال أيام خلافته، حتى خرّ شهيداً مضجراً بدمائه الطاهرة الزكية، ملبياً لدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإفطار عنده. انظر: استشهاد عثمان لخالد الغيث (ص116) بتصرف يسير.
أخرج الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1/ 496 - 497) بإسناد حسن، من طريق مسلم أبو سعيد مولى عثمان رضي الله عنه: أن عثمان بن عفان أعتق عشرين مملوكاً، و دعا سراويل فشدها عليه - حتى لا تظهر عورته عند قتله - و لم يلبسها في جاهلية ولا في إسلام، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في النوم و رأيت أبا بكر و عمر و أنهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه، فقتل وهو بين يديه.
و اعتبرت فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه من أخطر الأحداث التي مرّت بها الدولة الإسلامية في عصر الخلافة الراشدة، و قد تركت من الاختلاف و الانقسام في صفوف الأمة ما كاد يودي بها، و قد أعقبها فتن داخلية أخرى تتصل بها و تتفرع عنها و هي موقعة الجمل و صفين و النهروان، كما استمرت آثارها متمثلة في الخوارج و الشيعة المعارضين للدولة الأموية و العصر الأول من الدولة العباسية خاصة، بل يمكن أن نعتبر الانقسامات الكبرى الناجمة عن الفتنة مؤثرة في الأمة حتى الوقت الحاضر.
و كان مقتل عثمان رضي الله عنه صباحاً، في يوم الجمعة، الثاني عشر من ذي الحجة، سنة خمس
و ثلاثين من الهجرة، و دفن ليلة السبت بين المغرب و العشاء، بحش كوكب شرقي البقيع، و هو ابن
اثنتين و ثمانين سنة، على الصحيح المشهور. رحم الله عثمان و رضي عنه. انظر: ابن سعد (3/ 77 - 78) و خليفة بن خياط (ص176) و الطبري (4/ 415 - 416) و المسند (2/ 10) و الذهبي في تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين (ص481) و البداية و النهاية لابن كثير (7/ 190) والاستيعاب لابن عبد البر (3/ 1044).
(الموقف مما شجر بين الصحابة).
¥