ـ[أبو أويس المغربي]ــــــــ[09 - 09 - 07, 01:37 م]ـ
آثاره:
ويأخذ بعض الناس على الأستاذ النفّاخ قلة ما خلفه من آثار، وندرة ما صنعهُ من أعمال، وما أحسن ما قيل في ذلك [6] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425#_ftn6):
بغاثُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً ** وأمُّ الصَّقرِ مقلاتٌ نزورُ
فأعمال النفاخ بلغت الغاية دقة وإتقاناً، وفصاحة وبياناً، بدءاً من دراسته لابن الدمينة وتحقيقه ديوانه، ومروراً بصنعه فهارس شواهد سيبويه، واختياراته في الأدب الجاهلي، وانتهاءً بتحقيقه قوافي الأخفش. دع عنك ما حبَّره من مقالات غدت نموذجاً فريداً ومثالاً يحتذى في البحث العلمي، والتحقيق المستقصي، والنقد المحكم، والاطلاع الواسع [7] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425#_ftn7).
ومن اطَّلع على مكتبة الشيخ رأى عجباً فيما سطّره على هوامش كتبه من استدراكات وتحقيقات ونقدات لم يكد يخلو منها كتاب قرأ فيه، أو اطّلع عليه، أو عرض له. وكان - رحمه الله - كثيراً ما يقول لنا: إنه ما يكاد يفتح كتاباً حتى تقع عينه على مواطن الخطأ والتصحيف والتحريف فيه، وكأنه موكّلٌ بعثرات المحققين والناشرين، والمؤلفين والباحثين، والسوأة السوآء لمن يقرأ الشيخ عمله على سبيل التتبع والنقد والتعقب والتقويم، إنك عند ذلك لن تجد بياضاً في الكتاب، لا في الهامش ولا في الأعلى ولا في الأسفل، فخط الشيخ يُحدِقُ بالكتاب من كلِّ جانب، بل هو يخالط السطور والأحرف ويدخل فيما بينها معلقاً ومدقّقاً’, ومخرجاً ومحيلاً .. ومقوماً ومعقباً ومُدلّلاً ومستشهداً. وإذا رأيت ثَمَّ رأيتَ علماً غزيراً وفهماً عظيماً.
وقد يُحوجه الأمر إلى إضافة أوراق يودعها الكتاب الذي يتعقبه ليستكمل مسألة يحققها، أو تخريجاً يتتبَّعُهُ، أو إحالة يستوفيها. ولهذا ما كان يبقي على حجم الكتاب كما أخرجته المطبعة لا يقصُّ منه جانباً، ولا ينقص منه هامشاً. وإن أنس لا أنسَ أسفه وحزنه على كتاب تطوَّع أحد أصحابنا بتجليده، فأعمل المجلَّد مقصَّه فيه، فجاء على غير ما يحبُّ الشيخ ويرضى. وإن تعجب فعجب أمر القصاصات التي يجعلها الأستاذ بين صفحات الكتاب ليستدل على مواطن فيه، إذ لا يكاد يخلو منها سفر من أسفار المكتبة.
والحق أن من رواء هذا كله أعمالاً جليلة، كان الأستاذ قد أنجزها أو كاد، ثم حالت حوائل دون إخراجها للناس، على رأسها عمله في القراءات القرآنية والأحرف السبعة، ذلك العمل الذي أكل سني عمره، وكان يعدّه لنيل درجة الدكتوراه، ثم لما بلغ فيه الغاية استنكف أن يتقدم به لنيل الدرجة، وقد حدثني الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين [8] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425#_ftn8) أنه قدم دمشق فزار الأستاذ النفاخ، وأخبره أن أستاذه الدكتور شوقي ضيف - وكان المشرف على رسالته - يطلب إليه أن يكتب ولو ورقة واحدة يلخص فيها نتائج بحثه ليمنحه عليها درجة الدكتوراه، فما كان جواب الأستاذ إلا أن أبى مترفعاً - وأكاد أقول مستنكراً - لأنه كان يرى نفسه فوق تلك الدرجة، بل فوق كثير ممن كان يمنحها.
ومن أعماله الأخرى التي توفّر عليها زمناً طويلاً، وأخذت منه كلّ مأخذ ولكنه لم يخرجها، تحقيقه معاني القرآن للأخفش، ومعرفة القراء الكبار للذهبي، ورسالة الإدغام الكبير المنسوبة إلى أبي عمرو بن العلاء [9] ( http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=39&ArticleID=425#_ftn9), وكان الأستاذ يعتزم أن يشارك بها في تكريم شيخه أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر، رحمه الله. ومن هذه البابة أيضاً مراجعته تحقيق كتاب ((الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري)) وهو تحقيق كان قد نهض به الأستاذ الدكتور أمجد طرابلسي - رحمه الله - ثم رغب إلى الأستاذ أن يراجعه، فأعمل الأستاذ فيه فكره وعلمه وقلمه، وامتدت المراجعة نحواً من خمسة عشر عاماً شهدتها عاماً عاماً، والشيخ يعيد التحقيق من جديد، يبدي ويعيد في مسائل، ويتوقف عند مسائل، ويرجئ النظر في مسائل على عادته في إتقان العمل وتجويده وتحكيكه وتثقيفه، وطلب وجه الكمال فيه، وأنّى يُدرك الكمال وهو لله وحده سبحانه.
وتحسن الإشارة هنا إلى أن شيخنا النفاخ راجع الكثير مما أخرجه المجمع من كتب التراث المحققة، أذكر من ذلك على سبيل التمثيل كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف، وكان الأستاذ يُشركني والأخ الدكتور يحيى مير علم بمعارضته بأصوله، ومن ذلك أيضاً كتاب الأزهية في حروف المعاني للهروي بتحقيق الأستاذ عبد المعين الملوحي، وكتاب شرح أرجوزة أبي نواس لابن جني بتحقيق العلامة الأستاذ محمد بهجة الأثري، وكتابا الإتباع والإبدال لأبي الطيب اللغوي بتحقيق الأستاذ عز الدين التنوخي، ورسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا بتحقيقي مع الدكتور يحيى مير علم.
من ذلك كله يتبدّى أنَّ ما أنجزه الرجل كثير كثير، ولكنه موزّع في بطون الكتب، وحواشي التحقيق، وعقول الطلبة، إذ لم يكن - رحمه الله - يردُّ طالب علم، أو سائل حاجة، أو ملتمس عون في أي شأن من شؤون العلم، وما أكثر ما كان يُقصَد، وما أعظم ما كان يرفِد:
يسقط الطير حيث ينتثر الحَ ** بُّ وتغشى منازلُ الكرماءِ
((ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا)).
¥