بل إن الكذب لم يقتصر على الصحابة و التابعين فقط، و إنما تعداهما إلى رسول الله (ص) فكم من حديث زعموا أنه كلام رسول الله (ص) و ما هو كذلك، حتى قال بعضهم نحن لا نكذب على رسول الله (ص) و إنما نكذب له، فجاء علماء الحديث و صنفوا الأحاديث إلى: صحيح، حسن، ضعيف وموضوع، و وضعوا لذلك مصنفات و كتب.
ثم تعاقب الدول و الأسر الحاكمة، فالدولة التي تقوم على أنقاض سابقتها تحاول أن تبرز مساوئ و أخطاء الدولة السابقة، و محو إيجابيتها حتى تثبت أحقيتها بالحكم، و أنها حاربت الظلم و الطغيان، وجاءت بالعدل و الخير. فنشرت الأخبار و الروايات ضد سابقتها و تحتضن الكتاب و الرواة الذين يقومون بذلك، فهذه الدولة العباسية قامت على أنقاض الدولة الأموية و هكذا.
فجاءت هذه الأخبار و الروايات غثها و سمينها، منها الصحيح و منها المكذوب، و منها ما اجتمع فيه الصحيح و غيره. ورأى المؤرخون أن ينقلوها إلينا كما هي من باب الأمانة العلمية. يقول الطبري " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يسمع له وجها في الصحة، و لا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤتى في ذلك من قبلنا، و إنما أتي من قبل ناقليه إلينا، و أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا"
هذا بالنسبة للمؤرخين العدول أما بالنسبة للمؤرخين أصحاب الأهواء، فإنهم و جدوا ضالتهم في تلك الرويات المخلوطة بين الصحة و الكذب ... يقول القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم "إنما ذكرت لكم هذا لتحذروا من الخلق و خاصة المفسرين و المؤرخين و أهل الأدب، فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرين .. فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، و لا تسمعوا كلاما إلا للطبري .. و غير ذلك هو الموت الأحمر، و الداء الأكبر، فإنهم ينشؤون أحاديث فيها استحقار الصحابة و السلف، و الإستخفاف بهم، و اختراع الإسترسال في الأقوال و الأفعال عنهم، وخرجوا مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، و عن الحق إلى الهوى. فإذا قاطعتهم أهل الباطل و اقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل"
"فقد شارك في تدوين أخبار التاريخ الإسلامي و روايتها مجموعة من الإخباريين، و الرواة والضعفاء المتهمين في عدالتهم من أتباع الفرق الضالة: كالسبئية و الرافضة و الشعوبية و الزنادقة و كان الشيعة خاصة أكبر عدد من الرواة و الإخباريين الذين تولوا نشر أكاذيبهم و مفترياتهم، و من الوسائل التي استخدمها المبتدعة من الأخباريين لغرض تحريف الوقائع التاريخية و تشويه سير الصدر الأول من الصحابة:
الإختلاق و الكذب
الإتيان بخبر أو حادثة صحيحة، فيزيدون فيها، أو ينقصون منها حتى تشوه و تخرج عن أصلها.
وضع الخبر في غير سياقه حتى ينحرف عن معناه و مقصده
التأويل و التفسير الباطل للأحداث
إبراز المثالب و الأخطاء و إخفاء الحقائق و المحاسن
صناعة الأشعار و انتحالها لتأييد حوادث تاريخية مزعومة. لأن الشعر العربي كان ينظر إليه كوثيقة تاريخية و مستند يساعد على توثيق الأخبار و تأييدها.
وضع الكتب و الرسائل المزيفة و نحلها لعلماء و شخصيات مشهورة، كما وضعت الرافضة كتاب "نهج البلاغة" و نسبته للخليفة الراشد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – و وضع كتاب "الإمامة و السياسة" و نسب إلى أبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري لشهرته عند أهل السنة و ثقتهم به"
و من هنا جاءت الكتب التاريخية مملوءة بالأكاذيب و الأباطيل إلى جانب الصحيح و الوثوق إما لاعتماد المؤرخين الأمانة العلمية و نقلوها لنا، و إما عن قصد و سوء نية و في هذا يقول بن خلدون "إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام و جمعوها، و سطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، و خلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها و ابتدعوا، و زخارف من الرويات المضعفة لفقوها، و وضعوها، و اقتفى تلك الأثار الكثير ممن بعدهم و اتبعوها و لا رفضوا ترهات الأحاديث و لا دفعوها، فالتحقيق قليل، و طرق التنقيح في الغالب كليل، و الغلط و الوهم نسيب للأخبار وخليل، و التقليد عريق في الأدميين و سليل، و التطفل على الفنون عريض طويل، و مرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل"
ثم يستمر بعد أن ذكر بعض المؤرخين "ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد، و بليد الطبع و العقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال، و يحتذي منه بالمثال، و يذهل عما أحالته الأيام من الأحوال، و استبدلت به عن عوائد الأمم و الأجيال، فيجلبون الأخبار عن الدول، و حكايات الوقائع في العصور الأول، صورا قد تجردت عن موادها، و صفاحا انتضبت من أغمادها، و معارف تستنكر للجهل بطارفها و تلادها. إنما هي حوادث لم تعلم أصولها، و أنواع لم تعتبر أجناسها و لا تحققت فصولها، يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها، اتباعا لمن عني من المتقدمين بشأنها، و يغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها، بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها، ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها وهما أو صدقا، و لا يتعرضون لبدايتها، و لا يدكرون السبب الذي رفع من رايتها، و أظهر من آيتها، و لا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعا بعد افتقاد أحوال مبادئ الدول و مراتبها" و هذا النص لابن خلدون واضح في مهازل بعض المؤرخين و ضعفهم في التحقيق من صحة ما نقل إليهم.
¥