العشرين، فبهر الناس بخطبة ارتجلها، وبهرني مع الناس هذا الذي صار من بعدُ نابغة الخطباء، وهو عصام العطار. ”
لم أصِرْ «نابغة الخطباء» كما ذكر الأستاذ رحمه الله، ولكن - وأقولها للحقيقة - لم تكن هذه أول خطبة لي، وإن كانت أول خطبة سمعها الأستاذ مني، فقد تعودت الخطابة وأنا في المدرسة الابتدائية. كانوا في إدارة مدرستنا إذا زارتنا مدرسة أخرى، وتكلم بعض أساتذتها، طلبوا إلي، بل ألحوا عليّ، أن أرد على غير رغبة مني - باسم الإدارة والأساتذة والطلاب جميعاً
ذكرت الانتخابات وما كتبه الشيخ علي الطنطاوي وعن خطبتي، لأبين أن هذه المناسبة وأمثالها قد زادت الشيخ محبة لي، وتقديراً واحتراماً، وجعلت صلتنا وصداقتنا تقوم على أساس أرسخ من مجرد الأخوة أو الحب الأبوي
* * *
سافرت سنة 1951 أو 52م إلى القاهرة مع أخي وصديقي المجاهد الجليل محمد زهير الشاويش، لأسباب منها أنني كنت أهاجم دكتاتور سورية في ذلك الحين العقيد أديب الشيشكلي في خطبي في مسجد الجامعة السورية، وفي مواطن ومحافل أخرى، فألزمني بعض كبار علمائنا - ومنهم الأستاذ الطنطاوي - بأن أسافر إلى مصر، لتفادي الصدام، وتخفيف حدة التوتر، وللدراسة فيها أن أحببت، أو لقضاء بعض الوقت خارج سورية على الأقل
وفي غيابي مرض أبي، واشتد به المرض، ولم يخبرني بذلك أحد. كان - رحمة الله عليه - يستحلف كل مسافر إلى مصر يزوره يعرفني، ألا يخبرني بمرضه، خوفاً علي من بطش الشيشكلي إذا عدت؛ ولكن عندما أحسّ إخوانه وإخواني بدنو أجله، أبرق الأستاذ الطنطاوي إلى خاله العلامة المجاهد الرائد: السيد محب الدين الخطيب - رحمه الله تعالى - بأن يتلطف بإخباري بمرض أبي، وضرورة عودتي إلى دمشق، وعدت إلى دمشق قبل وفاة والدي بأيام
وفي دمشق رأيت حول سرير أبي عدداً من الإخوة والأصدقاء، ما فارقوه يوماً من الأيام، على امتداد شهور مرضه، إخوة وأصدقاء انطبعت صورهم في قلبي، وغدوا عندي كأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم» فكيف وهم قد طوقوا من بعدُ بمحبتهم ووفائهم وعونهم عنقي، ولم يكن منهم إلا الجميل من القول والفعل، ومن هؤلاء أخي وصديقي، أستاذنا، وأستاذُ جيلنا بل أجيالنا: علي الطنطاوي
وتولى الأستاذ الطنطاوي أمر الجنازة لتكون بكل ما فيها وفق السنة المطهرة، رغم احتجاج كثير من أهلنا ومن معارفنا، فكانت أول جنازة في الشام لعالم من العلماء لا يكون فيها أيُّ بدعة من بدع الجنائز، وذلك كله بفضله
وفي المقبرة وقف على قبر أبي يرثيه، فبكيتُ بعينيه، وأبكيتُ بلسانه الناس وتكلم أيضاً الأستاذ الجليل أحمد مظهر العظمة رحمه الله، وتكلم آخرون، لم أعد أتذكر تماماً كل من تكلم، فلم أكن معظم وقتي خلال تشييع أبي ودفنه ورثائه في هذه الدنيا
* * *
وقد بلغت محبة علي الطنطاوي لي، وثقته بي، وبلغت أخوتنا وصداقتنا ذروتها العالية عندما اختارني زوجاً لابنته «بنان»، وتجاوزت هذه الأخوةُ والصداقةُ كل ذروة من الذُّرى عندما استُشهدت «بنان» الحبيبة في 17/ 3/1981م في مدينة آخن في ألمانيا، فالتقت منه ومني إلى الأبد جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع، وذكريات بذكريات، ودعواتٌ بدعوات
ولم تندمل قط جراح علي الطنطاوي لفقد بنان ولم تندمل جراحي، ولم يرقأ دمعه ولم يرقأ دمعي، ولم يسكت حزنه، ولم يسكت حزني، إلى أن اختاره الله إلى جواره
كتبَ في الحلقة «199» من ذكرياته، بعد سنوات من استشهاد ابنته، بمناسبة يوم عيد: “ أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلا التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألم المرّ .. فأنى لي الآن، وهذا يومُ عيد، أن أقوم بهذا الذي كنت أراه واجباً علي؟ كيف أصل إلى القبرين اللذين ضما أحب اثنين إلي: أمي وأبي، وبيني وبينهما ما بين مكة والشام، وكيف أصل إلى القبر الثاوي في مدينة آخن في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها، ولا مكانها؟ ما كان يخطر في بالي يوماً أن يكون في قائمة من أزورُ أجداثهم بنتي، ويا ليتني استطعتُ أن أفديها بنفسي، وأن أكون أنا المقتول دونها، وهل في الدنيا أبٌ لا يفتدي بنفسه بنته؟ إذن لمتُّ مرة واحدة ثم لم أذق بعدها الموت أبداً، بينما أنا أموت الآن كل يوم مرة أو مرتين، أموت كلما خطرتْ ذكراها على قلبي ”.
وفي أيامه الأخيرة، وهو في غرفة العناية المركزة بين الحضور والغياب، كان يُحس منْ يحفون بسريره من بناته وأصهاره وخُلَّص إخوانه، أنه يفتقد بينهم شخصاً لا يراه، ويرمز لهم رمزاً واضحاً إلى بنان، ولا يُسعفه اللسان، وارتفعت يدُه ليُعانق حفيده «أيمن» ابن بنته الشهيدة، وقد حضر إليه من ألمانيا، عندما رآه، ثم سقطت اليد الواهنة على السرير، وافترَّتْ شفتاه عن ابتسامة حزينة سعيدةٍ حلوةٍ، امتزج فيها الحزن والسرور والشكوى، ونطقت عيناه وأسارير وجهه بما لا يوصف من الحنان والشكر والأسى، مما لا يعبِّر عنه - كما قالوا - قلمٌ ولا لغةٌ ولا كلام
* * *
لعلك يا قارئي الكريم تكون الآن، وقد مررتَ بهذه السطور، قد لمحتَ خلالها لمحةً خاطفةً شيئاً من علي الطنطاوي الخطيب، والكاتب الأديب، والمعلم الفريد، والصديق الوفي، والولد البار، والأب النادر بين الآباء
رحمه الله رحمةً واسعةً، وجزاه عنا أحسن الجزاء، فهيهات أن يجود بأمثاله الزمان
¥