تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولا أنسى للشيخ علي - كما تعودنا أن نقول - مقالاته الطريفة الساخرة، التي كانت تحمل خفة ظله، وحلاوة فُكاهته، ولطف دُعابته، ولواذع سخريته؛ وإنك لتقرأ إحدى هذه المقالات الساخرة فلا تملك نفسك من الابتسام بعد الابتسام، ومن القهقهة مرةً أو مرات

علي الطنطاوي - دون شك - واحد من كبار أمراء البيان في هذا العصر؛ بل إن بعض صفحاته لترفعه مكاناً علياً بين أمراء البيان في سائر العصور

* * *

وفي سنة 1945 أو 46 م افتتح المعهد العربي الإسلامي في دمشق، وحضرتُ فيه بعض الدروس. ودعت إدارةُ المعهد مرة الأستاذ الطنطاوي لإلقاء درس أو محاضرة أدبية على طلبة صفوفه العليا وبعض أساتذته، وحضر الأستاذ الطنطاوي فألقى الدرس أو المحاضرة، ثم طلب إلى الحضور أن يسألوا أو أن يعقِّبوا على ما قال، وتكلمتُ كما طلب، وكان لي نظرة غيرُ نظرته، ورأي غيرُ رأيه في بعض ما سمعناه منه، وبعد نحو دقيقتين أو ثلاث استوقفني، وطلب إلي أن أقف بدَله على المنبر، وأن يجلس بدلي على مقعد الدرس، فأبيت واستحييت، فأقسم عليّ أن أفعل، وقال لي بحرارة وحبّ: أنت أحق بأن يتلقّى عنك، ثم التفت إلى الحضور وبينهم بعض الأساتذة وقال: والله لا أدري كيف يأتون بمثلي وعندهم هذا العالم الأديب

ووقفت على المنبر، ولم أتابع الحديث فيما كنت فيه؛ ولكنني تحدثت عن الأستاذ الطنطاويّ، وعن آثاره، وخصائص أدبه، حديث العارف المستوعب المتعمق، وهو ينظر إلي بدهشة ولا يكاد يصدّق، فلما انتهيت قال لي: من أنت؟ قلت عصام العطار. قال: هل تعرف الشيخ رضا العطار؟ قلت: هو أبي، وكان أبي أيضاً من رجال القضاء. ومنذ ذلك الوقت بدأت معرفتنا الشخصية المباشرة، وأخذت خطاي طريقَها إلى بيته في الجادة الخامسة في المهاجرين، وخطاه طريقها إلى بيتنا في «الزهراء» قرب الجسر الأبيض، واتصلت حبال الوُدّ بين الأسرتين، الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، وكان محمد سعيد، الأخ الأصغر لعلي الطنطاوي، أخاً لي وصديقاً أثيراً، ووالله ما رأيتُ، على طول ما عشت، وكثرة من قابلت على هذه الأرض، أزهد منه ولا أكرم ولا أعبد، فألف سلامٍ وسلام على أخي الحبيب، وصديقي الصدوق، محمد سعيد الطنطاوي، في شيخوخته ومرضه ووحدته في مكة المكرمة

ولم أذكر هنا ما ذكرته من حديثي مع الأستاذ الطنطاوي للتفاخر به، وقد جاوزت الآن السبعين من العمر، وليس من عادتي - كما يعلم المقربون من أصدقائي - أن أتفاخر بمثل هذه الأمور، وإنما ذكرته لأمرين: أولهما أن أدُلَّ على أريحية الأستاذ وخلقه وكرمه، وحرصه على تربية الملكات، وتفتيح الإمكانات، وتشجيع من يقدِّر فيهم الخير، فأنا لا أعرف أستاذاً له شيء يسير من علم الطنطاوي ومنزلته وشهرته يمكن أن يعامل تلميذاً لم يكن يعرفه، بمثل ما فعل الطنطاوي. ثانيهما أن أسجل اللحظة والمناسبة التي وُلِدتْ فيها معرفتنا الشخصية المباشرة، وأخوتنا وصداقتنا التي نمت وازدهرت مع الأيام

وليس بسرّ أنني والشيخ علي الطنطاوي لم نكن نتفق دوماً في كل أمر، وفي كل موقف، وفي تقويمنا للأشخاص والأوضاع، بل ربما اختلفنا في بعض ذلك أشد اختلاف؛ ولكن اختلافنا لم يضعف أخوتنا ومحبتنا، ولم يوهن صداقتنا ورابطتنا، وتعاوننا الوثيق على البر والتقوى في كثير من الأمور

* * *

سنة 1947 رشح علي الطنطاوي وهو في مصر نفسه للانتخابات النيابية التي جرت في سورية، ثم حضر متأخراً إلى دمشق. كانت شعبيته قوية واسعة؛ ولكن التزوير الصارخ عمل عمله في تلك الانتخابات، وكانت هنالك أيضاً ظروف سياسية، وتحالفات حزبية، ومصالح شخصية واقتصادية، جعلت عدداً من إخوانه وأصدقائه يقفون ضده أو يتخلون عنه. أشار إلى ذلك بمرارة في ذكرياته، ومن ذلك قوله في بعض من خذلوه: “ لقد أعرض عني أقرب أصدقائي ممن أسميهم أصدقاء العمر، وكانوا رفاقي في المدرسة، وكانوا أصحابي في حياتي، نسوا ما كان بيننا وبينهم ... ”، ولكنه ذكر من وفواْ له بالخير: “ لقد رأيت الوفاء من جيراننا في الحي، ورأيت الوفاء من تلاميذي وتلاميذ أبي، حين أقام لي الشيخ محمود العقاد رحمة الله عليه حفلةً في مدرسته «المدرسة التجارية العلمية» جمَعتْ وجوه البلد، وفي هذه الحفلة ظهر خطيب جديد كان يومئذ شاباً في

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير