تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الآية التي بعدها {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}. إذا هذه الفتن والمحن لا تزيد المؤمنين إلا صبرا وإصرار وثباتا على دينهم فالإمام أحمد لم يزايد ولم يجعله البلاء والشدة يقول: أنا لست مكلفا ولا ملزما بهذا وأنا بعافية والحمد الله , ألزمُ بيتي وأغلقُ بابي! .. لا , القضية قضية دين ومسؤولية وأمانة لا بد أن يحملها. كذلك لما قال له الخليفة ما قال: يا أحمد أنا والله عليك مشفق، وأنت عندي مثل ولدي هارون فإذا أجبتني إلى ما أريد أطلقتك بيدي وفعلت وفعلت هذا أيضا لم يزلزل موقف الإمام أحمد , كانت كلمته في الحالين واحدة: "هاتوا لي دليلا من كتاب الله" , إنه لم يتقلب مع الذين تقلبوا ولم يتلون مع الذين تلونوا:

ولم أتلون كالذين تلونوا ~~~~~~~~ وزاغوا وراغوا خسئة وتصيدا

وحسبي من القول الحلال قصائد ~~~~ نطقت بها تبقي إذا لفني الردى

إن الكثيرين قد يدعون دعاوى ويقولون أقوالا فإذا وصلت الأمور إلى المحك وجد الجد لم تجد الرجال ولم تجد الصدق , والناس إنما ينظرون إلى هؤلاء في المواقف التي يبين بها المحق من المبطل، والصادق من الكاذب، والمؤمن من ا لمنافق. ربما كان الخليفة ينظر إلى أحمد فيتغيظ منه ويقول في قرارة نفسه: لماذا هذا العناد؟ لماذا الخليفة يقف بنفسه على رأسك ويطالبك فلا تجيبه بكلمة؟ ولكن أمر الله تعالى كان عند الإمام أحمد أعظم من أمر الخليفة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) , وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ثم قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} , حتى لو كانت المنازعة مع كبير أو وزير أو أمير أو مشير أو غير ذلك , بل حتى لو كانت المنازعة مع أب حبيب عظيم القدر رفيع الشأن! يقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فالحق أعز من كل عزيز، وأحب من كل حبيب، وفي سبيل الحق تطير الروؤس، وفي سبيل الحق يقدم الإنسان راحته وسعادته وهو يقول:

ربي لك الحمد لا أحصى الجميلا ~~~~~ إذا نفذت يوما شكاه القلب في كربي

فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وماشيء ~~~~~~~ سوى الحمد في الضراء يجمل بي

لك الحياة كما ترضى بشاشتها ~~~~~~ فيما تحب وإن باتت على غضبي

رضيت في حبك الأيام جائرة ~~~~~~~ فعلقم الدهر إن أرحاك كالعذب

شكرا لفضلك إذا حملت كاهلنا ~~~~~~~ مما وثقت بنا ما كان من نوب

وفي عهد الواثق بعدما مات المعتصم تغيرت الأمور وهدأت الفتنة، ولكن الواثق فرض على الإمام أحمد الإقامة الجبرية في بيته، وكان المعتصم قد أطلقه وندم على ما كان منه، ثم فرض عليه الواثق الإقامة الجبرية في بيته فلا يخرج حتى إلى الصلاة!! قولوا لي بالله عليكم من يستطيع أن يصبر على هذا؟! إنه لا يصبر عليه إلا الأفذاذ من الناس. لو أُمِر الإنسان ألا يخرج من بيته يوما واحدا أو أودع في السجن ساعة لضاقت عليه الأرض بما رحبت وصار يضرب أخماسا بأسداس وترك ما كان يدعو إليه من قبل وتغيرت في عينه الموازين ... فالله المستعان. أما أحمد فبعدما خرج من كير المحنة ونارها جاءته المحنة الأخرى وهي فرض الإقامة الجبرية عليه في بيته لا يخرج حتى إلى الصلاة ولا يُعَلِّم ولا ينشر علما ولا حديثا.

ثم جاء بعد ذلك المتوكل فأكرم الإمام أحمد وعظمه ورفع عنه المحنة وأذن له بالتعليم والتدريس ونشر علمه وفقه وحديثه وفتياه، ومع ذلك فإن الأمر لم يسلم من المنغصات. فمع أن المتوكل أكرم أحمد واحتفى به ولقيه مرات وطلب منه أن يشخص إليه فاستقبله في بغداد وأسكنه ببيت فخم , وكان يغدى عليه بالموائد ويراح والإمام أحمد لا يأخذ شيئا من ذلك ولا يأكل منه شيئا ولا يقربه بل ينهى من حوله عن ذلك كله، وقد رضى وقنع باليسير والزهيد فكان يأكل من ماله الخاص. فحينئذ قال قائل للخليفة: إن هذا الرجل لا يأكل لك طعاما ولا يشرب لك شرابا ولا يجلس لك على فراش، بل هو يحرم ما تشربه فلماذا لا تتخذ منه موقفا؟! هذا تقرير رجال الأمن للخليفة في ذلك الوقت , فماذا قال

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير