وحقيقة لفظه غلط وفاسد وذلك أن هذا الأعرابي لما سمعهم يقولون: ملك الموت، وكثر ذلك الكلام سبق إليه أن هذه اللفظة مركبة من ظاهر لفظها فصارت عنده كأنها فعل لأن ملكا في اللفظ في صورة فلك وحلك فبنى منها فاعلا فقال مالك موت وعدى مالكا فصار في ظاهر لفظه كأنه فاعل وإنما مالك هنا على الحقيقة والتحصيل مافل كما أن مالكا على التحقيق مفل وأصله ملأك فألزمت همزته التخفيف فصار ملكاً.
فإن قلت: فمن أين لهذا الأعرابي مع جفائه وغلظ طبعه معرفة التصريف حتى يبني من ظاهر لفظ ملك فاعلا فقال مالك: قيل: هبه لا يعرف التصريف أتراه لا يحسن بطبعه وقوة نفسه ولطف حسه هذا القدر هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم آلف لمذاهبهم لأنه وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصنعة فإنه يجدها بالقوة ألا ترى أن أعرابيا بايع على أن يشرب علبة لبن لا يتنحنح فلما شرب بعضها كده الأمر فقال كبش أملح فقيل له ما هذا تنحنحت فقال من تنحنح فلا أفلح أفلا تراه كيف استعان لنفسه ببحة الحاء واستروح إلى مسكة النفس بها وعللها بالصويت اللاحق في الوقت لها ونحن مع هذا نعلم أن هذا الأعرابي لا يعلم أن في الكلام شيئا يقال له حاء فضلا عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة وأن الصوت يلحقها في حال سكونها والوقف عليها ما لا يلحقها في حال حركتها أو إدراجها في حال سكونها في نحو بحر ودحن إلا أنه وإن لم يحسن شيئا من هذه الأوصاف صنعة ولا علما فإنه يجدها طبيعة ووهما فكذلك الآخر لما سمع ملكا وطال ذلك عليه أحس من ملك في اللفظ ما يحسه في حلك فكما أنه يقول أسود حالك قال هنا من لفظ ملك مالك وإن لم يدر أن مثال ملك فعل أو مفل ولا أن مالكا فاعل أو مافل ولو بنى من ملك على حقيقة الصنعة فاعل لقيل لائك كبائك وحائك؛ قال: وإنما مكنت القول في هذا الموضوع ليقوى في نفسك قوة حس هؤلاء القوم وأنهم قد يلاحظون بالمنة والطباع ما لا نلاحظه نحن على طول المباحثة والسماع؛ ومن ذلك همزهم مصائب وهو غلط منهم وذلك أنهم شبهوا مصيبة بصحيفة فكما همزوا صحائف همزوا أيضا مصائب وليست ياء مصيبة بزائدة كياء صحيفة لأنها عين عن واو وهي العين الأصيلة وأصلها مصوبة لأنها اسم فاعل من أصاب وكأن الذي سهل ذلك أنها وإن لم تكن زائدة فإنها ليست على التحصيل بأصل وإنما هي بدل من الأصل والبدل من الأصل ليس أصلا فهو مشبه للزائد من هذه الحيثية فعومل معاملته.
ومن أغلاطهم قولهم: حلأت السويق؛ ورثأت زوجي بأبيات؛ واستلأمت الحجر؛ ولبأت بالحج.
وأما مسيل فذهب بعضهم في قولهم في جمعه أمسلة إلى أنه من باب الغلط، وذلك أنه أخذ من سال يسيل، وهذا عندنا غير غلط، لأنهم قد قالوا فيه مسل، وهذا يشهد بكون الميم فاء، وكذلك قال بعضهم في معين، لأنه أخذه من العين، وهو عندنا من قولهم: أمعن له بحقه إذا طاع له به؛ فكذلك الماء إذا جرى من العين فقد أمعن بنفسه وأطاع بها.
ومن أغلاطهم ما يتعايون به في الألفاظ والمعاني نحو قول ذي الرمة:
والجيد من أدمانة عنود [الرجز].
وإنما يقال: هي أدماء والرجل آدم ولا يقال: أدمانة كما لا يقال: حمرانة وصفرانة.
وقال:
حتى إذا دومت في الأرض راجعها ... كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب [البسيط].
وإنما يقال: دوى في الأرض ودوم في السماء؛ ولذلك عير بعضهم على بعض في معانيهم كقول بعضهم لكثير في قوله:
فما روضة بالحزن ظاهرة الثرى ... يمج الندى جثجانها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهناً****وقد أوقدت بالعنبر اللدن نارها [الطويل]
والله لو فُعل هذا بأمة زنجية لطاب ريحها! ألا قلت كما قال سيدك:
ألم تر أني كلما جئت طارقاً****وجدت بها طيباً وإن لم تطيب [الطويل].
وكان الأصمعي يعيب الحطيئة فقال: وجدت شعره كله جيداً فدل على أنه كان يصنعه وليس هكذا الشاعر المطبوع؛ إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي الكلام على عواهنه جيده على رديئه ".
هذا ما أورده ابن جني في هذا الباب.
وقال ابن فارس في فقه اللغة: ما جعل الله الشعراء معصومين يوقون الغلط والخطأ فما صح من شعرهم فمقبول وما أبته العربية وأصولها فمردود كقوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى [الوافر].
وقوله:
لما جفا إخوانه مصعبا [السريع].
وقوله قفا عند مما؟؟ تعرفان ربوع [الطويل].
فكله غلط وخطأ.
قال: وقد استوفينا ما ذكرت الرواة أن الشعراء غلطوا فيه في كتاب خضارة؟؟ وهو كتاب نقد الشعر.
¥