كان ظهور معجم تاج اللغة وصحاح العربية للإمام إسماعيل بن حماد الجوهريّ بترتيبه وانتظامه من المفاصل الحاسمة في تطور المعجم العربي ونموه ووصوله إلى الترتيب المثالي، فقد استطاع الجوهري مستفيداً من تراكم الخبرات السابقة في مجال المعجم أن ينبذ في معجمه كل ما يعيق الرجوع إليه، فنبذ طريقة التقاليب والترتيب المخرجيّ ونبذ تقسيم الكلام إلى أبنية وهي طريقة تشتت المادة الواحدة وأقام نظامه على النظر إلى أصول المواد ثم ترتيبها باعتبار الحرف (الأصل) الأخير باعتباره (الباب) مع مراعاة الحرف الأول (الفصل) ثم مراعاة الثواني والثوالث وذلك حسب الترتيب الهجائي: أ، ب، ت، ث، ث، ج، ج ... الذي وضعه نصر بن عاصم الليثي ... وهكذا وصل بالمعجم العربي إلى تمام كما له من حيث الترتيب وسهولة المراجعة.
وتنامت حول معجم الصحاح حركة لغوية نشطة وغزيرة، فصنف بعضهم له تكملة واختصره آخرون ونقده آخرون، وكان ممن عني به عناية بالغة صلاح الدين الصفدي، فقد صنف أربعة مصنفات تدور في فلكه وهي:
ـ حلي النواهد على ما في الصحاح من الشواهد.
ـ غواض الصحاح.
ـ نجد الفلاح في مختصر الصحاح.
نفوذ السهم فيما وقع فيه الجوهريّ من الوهم.
وسنقتصر الكلام على غوامض الصحاح:
إن كلمة الغموض هنا لا تتجه إلى ما يسمى بغريب اللغة أو حوشيها وإنما تتجه إلى غموض الاشتقاق وصعوبة رد الكلمة المذكورة إلى أصلها، وخاصة لدى مّن لم يتمرس بالتصريف ويعرف شعابه ومسالكه، كما قرر الصفدي في مقدمته للكتاب، لذلك كان يذكر بعض تلك الغوامض ولا يذكر معناها، لأن معناها من الوضوح والشياع بحيث لا يخفى على أحد، لكن الغموض والصعوبة إنما هما في رد الكلمة إلى أصلها، وقد بدأ كتابه بعد المقدمة بذكر لفظ الجلالة (الله) واكتفى بأن قال: أورده الجوهري في ليه وأورده أيضاً في أله، ولم يقدّم أي شيء آخر، ويذكر مثلاً (الميناء) ومعناه معروف شائع قديماً وحديثاً لدى الخاصة والعامة، لكن وجه الغموض في ردّه إلى أصله الثلاثي (ونى) ...
فالصفدي قرأ الصحاح واستخرج الأبنية التي وجد فيها غموضاً بالمعنى المذكور وأعاد ترتيبها على نسق جديد تغلّب فيه على الصعوبة التي تواجه من يجهل التصريف في ردّ تلك الأبنية إلى أصولها.
وليس معنى هذا أن كل بناء مما ذكره الصفدي كان معروف المعنى، فإن من تلك الأبنية ما يدخل في مجال الغريب كالجحْرمة والجذعمة والحيقطان والخِذْلم والسُّميهى والسمعمع (19) .. الخ لكن غرابة اللفظ لم تكن سبب الاختيار وإنما غموض الأصل أو ما يشبه الغموض.
ليس في الكتاب جديد من حيث المادة، وإنما الجديد فيه ترتيبه فقد رتب الصفدي تلك الأبنية بعد استخراجها بحسب أوائل الحروف مع مراعاة الثواني والثوالث وما يليها من غير إعادة للكلمة إلى أصلها الثلاثي فكلمة "الأترجّة (20) " تذكر في باب الهمزة مع أن أصلها المعجمي "ترج" وكلمة "اعلنكك (21) " تذكر في باب الهمزة، وأصلها المعجمي "علك" وكلمة "العُنقر (22) " تذكر في باب العين مع النون مع أن أصلها "عقر" فترتيب غوامض الصحاح هو ترتيب هجائي يراعي أوائل الكلمات دون النظر إلى الأصول سواء أكانت ثلاثية أم رباعية أم خماسية وقد وقع بعض الاضطراب في ترتيب بعض المفردات مما لا مجال فيه للتفصيل هنا وهو مما لا يعيب الكتاب.
كتاب غوامض الصحاح ذكره صاحب الدر المنتخب ضمن مؤلفات الصفدي كما ذكره الزركلي في الأعلام 2: 316 وقال: بخطّه، رأيته في الأسكوريال (193) وهي النسخة نفسها التي نتحدث عنها، كما ذكره بروكلمان والدكتور ششن ولعله من المفيد أن نذكر أن هناك مسوّدة لهذا الكتاب بخط المؤلف وهي في جوروم برقم 1905 وآخره "تمت المسوّدة على يد مؤلفها الفقير خليل بن أيبك الصفدي في 73 ورقة، في أولها قيد سماعات عن المؤلف سنة 757، و 758 هـ " [نوادر المخطوطات 2: 164] ولم يتح لنا رؤية تلك المسوّدة.
المخطوط الذي بين أيدينا يعود تاريخ نسخه إلى جمادى الأولى عام 757 هـ وقد نسخ على يد مؤلفه في دمشق، جاء في آخره:
وكتب مؤلفه الفقير إلى الله تعالى خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي بدمشق المحروسة في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وسبعمائة الحمد الله حقّ حمده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل.
¥