فقول الأستاذ الدجوي في خاتمة مقاله الثاني: (على أن التوسل بالأعمال متفق عليه منا ومنهم فلماذا لا نقول: إن من يتوسل بالأنبياء والصالحين هو متوسل بأعمالهم التي يحبها الله تعالى، وقد ورد بها حديث أصحاب الغار فيكون من محل الاتفاق، ولا شك أن المتوسل بالصالحين إنما يتوسل بهم من حيث هم صالحون، فيرجع الأمر إلى الأعمال الصالحة المتفق على جواز التوسل بها، كما قلنا في صدر المقالة) اهـ.
أقول: قوله هذا غير مُسلَّم على إطلاقه، بل فيه نظر ظاهر؛ فإن المتفق عليه هو توسل كل عامل بعمله، ويشهد له حديث أصحاب الغار الذي استدل به، فهو حجة عليه لا له؛ لأن كل واحد من أولئك النفر الثلاثة توسل بعمله الصالح الذي أخلص فيه لله تعالى ولم يتوسل بعمل غيره، والأصل في هذا قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) فالقول بأن الأعمال الصالحة تنفع العاملين وغير العاملين، ومنفعتها وثمرتها تشمل الصالحين والطالحين، والمؤمنين والفاسقين، مما يجرئ على ترك العمل والزهد فيه، والاكتفاء بالتوسل بدلاً عنه،
ويجعل المتقين والفجار سواء في العاقبة والجزاء، الأولون ناجون بعملهم، والآخرون بتوسلهم بعمل غيرهم؛ ولكن الله يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) ويقول:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21).
لو كان التوسل بصلاح الصالحين وعمل العاملين يفيد المتوسلين لهان الأمر علينا معشر المسلمين، ولنالنا كل خير من ذلك، إذ يمكننا أن نقول مثلاً اللهم أزل ضعفنا وآمن خوفنا وانصرنا على عدونا بجاه سلفنا الصالح الذين جاهدوا في سبيلك لإعلاء كلمتك، ففتحت لهم فتحًا مبينًا، ونصرتهم نصرًا عزيزًا، ربنا هب لنا الملك والسلطان، والعلم والعرفان، والحضارة والعمران، مثل ما وهبت لهم، نسألك اللهم أن تمنحنا ذلك كله بجهادهم وسعيهم وعلمهم وعملهم، إذ نحن لا جهاد لنا ولا سعي، ولا علم ولا عمل؛ وإنما نحن عالة على غيرنا يا أرحم الراحمين،
أفترى أنه تفيدنا هذه التوسلات بجاه أسلافنا وقوتهم وسعة سلطانهم واستبحار عمرانهم، ونحن قد تداعت علينا الأمم فجعلتنا مغنمًا ونهبًا مقسمًا؟
وهكذا شأن التوسل الديني الأخروي، من وفقه الله وألهمه رشده يتقي عقاب الآخرة بما شرعه الله لاتقائه من التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضًا ولا يبطل بعضها بعضًا، كما حققه الإمام ابن القيم وآثرناه عنه في المقال المتقدم فجدد به عهدًا، ومثله في كتابي (العجب والقرور من إحياء الغزالي) والأصل في ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 53) فهو توسل إلى الله تعالى بالإيمان والاتباع ومثله قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ
آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عمران: 193) فقد رتب الله عليه الاستجابة بقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} (آل عمران: 195) الآية، وفي معناها آيات أخرى.
فانظر رحمك الله إلى هذه الآيات الكريمة، والأدعية الجليلة، كيف أرشدتنا لى التوسل إلى الله عز وجل بما شرعه من الإخلاص في الدعاء له وحده، والإيمان بما أنزله الله من عنده، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي جاء به من عند ربه، ثم تأمل كيف جعل ذلك سببًا لاستجابة الدعاء بمغفرة الذنوب وتكفير السيئات والوقاية من النار، والنظم في سلك الأبرار، وأين هذا التعليم الإلهي والتوسل الشرعي، من (المعامل) التوسلية التي أنشأها المبتدعة لأنفسهم ولغيرهم، وهم يصدرون عنها كل حين من التوسلات المبتدعة أنواعًا منوعة ما أنزل الله بها من سلطان {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: 140) وهل كان دين الله ناقصًا فأكملتموه بهذه المبتدعات المحدثات؟
أختم بهذا مباحثي في موضوع التوسل وألوي عنان القلم عنه لأجيب عما هو أهم منه كمباحث الألوهية والصفات على طريقة السلف الصالح بما يوضح للمشتبهين أن مذهبهم هو الأسلم والأعلم والأحكم إن شاء الله تعالى.
.............................. دمشق .....................
........................ محمد بهجت البيطار