تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإني لأذكر كيف كانت مطالعة قوائم الكتب تجعلني قفي مقدمة زملائي الطلاب في الصفوف المختلفة، وكيف كانت موضوعات الإنشاء تتسم بطابع يلفت النظر.

وقد هداني ذلك إلى أن ألقي محاضرة عام 1932 في المدرسة الابتدائية

عن "الأدب العربي الحديث" أعرض فيه للعقاد، والمازني، والزيّات، وطه حسين، وهيكل، وشوقي، وحافظ، وأحمد محرم، وأتحدث عن مؤلفاتهم وموضوعاتهم وخاصة كتاب "ساعات بين الكتب" للعقاد، و"قبض الريح" للمازني، و"روفائيل وآلام فرتر" للزيّات، و"الأيام" لطه حسين، و"في أوقات الفراغ" لهيكل، ويومها عدت إلى درجي في الفصل فوجدته مقلوباً مضطرباً، فقد عنّ لبعض الأستاذة أن يبحث عن كراسة الإنشاء ليقارن بين ما ذكرته في المحاضرة وما أكتبه في هذه الكراسة ظناً منه أنني "سرقت" هذه المحاضرة من بعض المجلات.

ومازلت أذكر كيف أنني دعيت لمرافقة بعض الفلاحين يوم قطع الفيضان جسر بلدتنا حيث أقيم لي عريش صغير في أحد الحقول لنقل الحطب إلى الجسر لحمايته، وكيف أن هؤلاء الفلاحين قد ذهبوا يجنون بقايا الأقطان من الحطب ويضمونها إلى عبوبهم، ثم رأوا في آخر اليوم أن يشركوني في حصيلة ما جمعوه فقدموا لي مبلغاً من المال، وقد رفضته على الفور، غير أن بعضهم كان يعرف هوايتي في قراءة قوائم الكتب، فأسرع وقد عرف عنوان هذه المكتبة، فاشترى حوالة بريد باسمي بالمبلغ الذي رفضته، قائلاً: "إنك تحب الكتب ولذلك فإن هديتنا إليك ستكون بعض هذه المؤلفات" وما زلت أذكر كيف تلقيت بعد أيام "ربطة" ضخمة كانت هي نواة مكتبتي، ولا تزال بها حتى اليوم.

ومازلت أذكر إلى اليوم عن ذلك الكاتب الأديب المجهول الذي كان يكتب في قوائم المكتبات تلك السطور القليلة تحت كل كتاب في التعريف به، ويبدو أنه كان أحد رجال الأزهر الذين يعملون في هذه المكتبة أو تلك، غير أن هذا الفن، فن التعريف بالكتب، قد تقدم في السنوات الأخيرة تقدماً باهراً، وأصبح يقوم به رجال متخصصون، أذكر منهم اليوم الأستاذ محمد عبد الغني حسن الذي أشرف على قوائم عدد من دور الكتب الكبرى، ولقد أعد نوعاً من القوائم السريعة الشبيهة بالمجلات تحت اسم "بريد الكتاب".

ولقد كانت تجارة الكتب في العقود الأولى من هذا القرن عملاً مربحاً للناشرين وأصحاب المكتبات بينما كان إيرادها ضئيلاً جداً بالنسبة للمؤلفين، ولقد كان أمثال العقاد والمازني يبيعون مؤلفاتهم للناشرين لقاء جنيهات قليلة لا تتجاوز أحياناً أصابع اليد الواحدة ويحصلون عليها قروشاً وأنصاف

ريالات. ويشترط الناشر أن يكون له حق طبع هذه الكتب وإعادة طبعها مدى الحياة.

فضلاً عن ذلك، فقد تنبه أصحاب المكتبات إلى طبع الكتب التي ليس لأحد حق فيها، فطبعوا عشرات الكتب القديمة في وقت كانت أسعار الورق زهيدة جداً، وإنني لأذكر كيف سافرت من بلدتي في الريف إلى القاهرة، وقد تجمع لي بعض الجنيهات، في سبيل الحصول على مجموعة من الكتب، فلما ذهبت إلى المكتبة المرموقة في مكانها المعروف في قلب القاهرة، قال لي البائع إن هذه الكتب ليست عنده ولكنها في الخازن الموجود قريباً من الأزهر، فلما ذهبت إلى هناك إذ بي أجد قبواً مهيباً مظلماً تحت الأرض وقد علا عليه نظام الشوارع الجديد فاختفى وأصبح يضاء بالفوانيس والكهرباء، وإذا بي أمام مدينة كاملة تحت الأرض تتكدس فيها الكتب على اختلافها بأعداد ضخمة وفي غرف واسعة، وحواصل عديدة. وذكرت كيف تنبه هؤلاء الناشرون إلى أن مثل هذه الكتب ستصبح فيما بعد ثروة ضخمة لهم ولأبنائهم وقد كان.

وهكذا كان شغفي بقوائم الكتب مقدمة لخط واضح ما زلت أسير فيه إلى اليوم، هو خط الكتب والتأليف والطبع والنشر، وما زلت كلما وقعت في يدي قائمة من قوائم المكتبات أذكر مطالع حياتي الأدبية منذ أربعين عاماً وأن قابع في الريف، أحلم برفوف الكتب وواجهات المكتبات التي لم تكن زجاجية في ذلك الوقت، وكان يمر بخاطري يوماً أن يكون لي كتاب معروض، فلما قدمت القاهرة وأقمت بها، قرأت عشرات من هذه الكتب، وأصبح لي منذ بضع وعشرين سنة موقعاً في دار الكتب لا أغيب عنه إلا لماماً، وقد قرأت به مئات من الكتب، بل لقد اضطررت، وأنا اعد "الموسوعة الإسلامية العربية" الجامعة، أن تكون لي قائمة تضم أسماء الكتب التي تلزمني وأرقامها، حتى لا يضيع الوقت كل يوم في البحث عن هذه الأرقام. ومن ثم عكفت على دراسة ما يزيد على نصف مليون بطاقة أخذت من الوقت أكثر من خمسة أشهر راجعت فيها بطاقات يحويها أكثر من 180 صندوقاً، وأعددت من خلال ذلك مجلداً ضخماً يحوي أكثر من خمسة آلاف كتاب، هذا بالإضافة إلى فهارس ضخمة لأعداد صحيفة الأهرام التي صدرت في الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين، يحوي مواد الأهرام الأدبية والفكرية والاجتماعية والأحداث التاريخية.

وقد علمتني قوائم الكتب كثيراً، علمتني حاجة الباحث الملحة إلى متابعة كل ما صدر من مؤلفات، فكل يوم يصدر كتاب جديد، ولعل كتاباً يصدر في موضوع، أو عن شخصية ما، يغنينا عن ساعات طويلة من البحث قد تكفل لها هذا الباحث.

ولقد ظهرت في السنوات الأخيرة بعض المؤلفات الجامعة التي تعين الباحث على الوصول إلى المراجع التي تتاح إليها وفي مقدمتها "قوائم المكتبات العامة"، وقوائم الدوريات الصحفية، وهناك "معجم المؤلفين" للباحث العلامة عمر رضا كحالة، و"المصادر الأدبية" للباحث المكتبي يوسف أسعد داغر، بالإضافة إلى الأعلام للزركلي.

ومن حق، أن قوائم الكتب، كانت ولا تزال، نافذة ثرة تطل على عالم الفكر العربي الإسلامي وتعطينا أول ما تعطينا انطباع التكامل والشمول الذي يتمثل به هذا الفكر جامعاً بين العلوم والفنون والآداب في سمت واحد متصل لا ينفصل."

*كتاب "آفاق جديدة في الأدب" ط مكتبة الأنجلو ص245: 249

للأستاذ أنور الجندي

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير