تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ساعة… ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال، كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعدادا للمعركة، فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام، وبعثت الأخرى لتمسح أرض الدار التي وسخها الأولاد، وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافا… ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه، ولكل شيء في هذا الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه، سنة سنها الشيخ لا تنال منه الغيرة ولا تبدلها الأيام، فهو يحب أن يضع يده على كل شيء في الظلمة أو نور، في ليل أو نهار، فيلقه في مكانه، ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم، نظرت إلى الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق… فاستعدت وغسلت يديها ووجهها ولبست ثوبا نظيفا كعهدها ليلة عرسها لم تبدل العهد، واستعد أهل الدار بكبارهم وصغارهم.

فلما استوى عقرب الثامنة أرهفوا أسماعهم فإذا المفتاح يدور في الباب إنه الموعد ولم يتأخر الشيخ عن وعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودات عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه سبيل. فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر، وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها.

غاضت الأصوات، وهدأت الحركة، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق، فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحزم المتزن، وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع، وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف… وكانت غرفة الشيخ يؤثرها على يمين الإيوان العظيم ذي القوس العالية والسقف المنقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق، والذي يتوجه أبدا إلى القبلة ليكون لأهل الدار مصيفا يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف، ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق، يشرفون منه على الصحن المرمري وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير… وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع كسائر غرف الدور الشامية، تغطيها (تخشيبة) مدّ عليها السجاد وفرشت في جوانبها (الطراريح): الوسائد والمساند، وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن (التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة. وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار، وقد صفّ إلى جانبه علبة وأدوات، وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد كما حرموا الدخان بلا دليل…

وإلى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير والكتابان الذي لا ينتهي من قراءتهما: الكشكول والمخلاة، وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر، وكل شيء في كيسه الذي خصصه به، وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها.

وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين أشبه الأشياء بصندوق الحديد، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب، فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه، ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علبا صغارا في كل علبة نوع من أنواع النقد: من النحاسات وأصناف المتاليك وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها والليرات العثمانية والإنكليزية والفرنسية، كل نوع منها في علبة من هذه العلب، فإذا أصبح أخذ مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية الشهر)، ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه، فضم كل جنس إلى جنسه، وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان)، الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا (وقلما كان يفعل) يستضيء به في طريق دمشق التي لم يكن بها أنوار إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم، وأكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان ويطفأ ليلا… وفيها الكأس التي تطوى… والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار… وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة، فأهدى إلى صاحبه قسما منها وأوع الباقي خزانته… وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها لأن حشوها (شكلاطة) … وكانت هي عجائب الدار السبع!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير