مصعب بن عمير رضي الله عنه .. من السّابقين إلى الإسلام، وكان أنعم فتى في قريش، وما كان يساويه أحد في النّعيم، فترك كلّ مظاهر التّرف، واتّجه وانصرف إلى الدّعوة إلى الله بأرض عُرفت بشدّة لأوائها، وغلظة حمّاها ودائها، روى البخاري عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رضي الله عنه.
فلم تخلُ حياة هذا المعلِّم من المعاناة .. فتراه بعيدا عن مكّة، وبعيدا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ظهره مكشوف للجميع، لا يملك شيئا .. لا أهلا .. ولا مالا .. ولا سلاحا .. كلّ ما يملكه رسالة من عند رسول الله: صلى الله عليه وسلم «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» [الأعراف:158] ..
كانت هذه الرّسالة هي زاده وسلاحه .. ما خرج يبحث عن حطام الدّنيا لينالها، ولكنّه يبحث عن حطام القلوب ليجمعها، فكان بمثابة الغيث لا يمرّ بقوم، ولا يدخل منزلا إلاّ أينع ثمارا طيّبة، فصارت المدينة حدائق غنّاء من العلم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ..
ولكنّ قوما يحملون في صدورهم صخورا ساءتهم تلك البهجة، وذلك الاخضرار .. فأخبروا سادات لهم ليضعوا حدّا لهذا الزّحف الربّاني .. وكان اسم ساداتهم: أسعد بن زرارة، وأسيد بن حضير، وسعدَ بنَ مُعاذ ..
فترى مصعبا قد وصل إلى قلوبهم، فهذا أسعد بن زرارة رضي الله عنه قد أسلم، ثمّ أسلم أسيد بن حضير، ثمّ جاء دور سعد بن معاذ .. وبإسلامه أسلم بنو عبد الأشهل .. فكانت أوّل دُورٍ من دور الأنصار أسلمت جميعها ..
ثمّ رجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُدعى المُقرِئ. ومن وراء ذلك كانت بيعة العقبة الثّانية.
ومن وراء ذلك كان لسعد ما جاء في البخاري ومسلم عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ)). وفيما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا)) -يشير إلى جبّة من سندس تعجّب منها الصّحابة لحسنها-.
ومعاذ رضي الله عنه، وابن مسعود رضي الله عنه، وسالم مولى حذيفة رضي الله عنه، كانوا من القرّاء، فكانوا مدارس لإقراء القرآن وتعليمه ..
بل إنّ معاذ بن جبل رضي الله عنه توفّي وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة يقول عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أعلم أمّتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل))، ((ويحشر يوم القيامة يتقدّم العلماء برتوة [قيل خطوة وقيل برمية حجر]!!
فكم كان عمر معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن؟! ..
3 - من صفاتهم: أنّهم مع الدّعوة لا يخافون في الله لومة لائم:
فقد ذكر عن أصحاب الكهف:» إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) «.
ويتولّى ربّ العزّة رعايتهم:» وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَّاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَتَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ «، ويعاملهم ربّ العزّة بأرحم ما تعامل الأمّ الرّؤوم ولدها:» وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ «، كما نجد الأمّ تقلّب وليدها من جانب إلى آخر لئلّا يفسد لطول المدّة، ويّلقي عليهم الهيبة:» ل َوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً «.
4 - من صفاتهم: أنّهم أصحاب همّة وتضحية ..
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن نفسه: " لقد شهدت بدراً وما في وجهي شعرة واحدة أمسحها بيدي " ..
¥