و المعروف: أن الإبل إذا ذهبت و تفلتت من صاحبها لا يقدر على الإمساك بها إلا بعد تعب و مشقة فكذلك صاحب القرآن إن لم يتعاهد حفظه بالتكرار و المراجعة انفلت منه و احتاج إلى مشقة كبيرة لاسترجاعه،
قال الحافظ ابن حجر في" فتح الباري" (6/ 76): ما دام التعاهد موجودا فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدودا بالعقال فهو محفوظ، وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفورا، و في تحصيلها بعد استكمان نفورها صعوبة. انتهى
قال الإمام النووي في" المنهاج" (3/ 336): فيه: الحث على تعاهد القرآن و تلاوته و الحذر من تعريضه للنسيان، قال القاضي: و معنى (صاحب القرآن) أي: الذي ألفه، و المصاحبة: المؤالفة، و منه: فلان صاحب فلان، و أصحاب الجنة و أصحاب النار، و أصحاب الحديث، و أصحاب الرأي، و أصحاب الصفة، و أصحاب إبل و غنم، و صاحب كنز و صاحب عبادة. انتهى
و روى البخاري (5032) من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت و كيت بل نسي، و استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم".
قال ابن بطال كما في " فتح الباري" (9/ 81): هذا حديث يوافق الآيتين، قوله تعالى (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) (المزمل:5) و قوله تعالى: (و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) (القمر: 17) فمن أقبل عليه بالمحافظة و التعاهد يسر له، و من أعرض عنه تفلت منه، و في هذا حض على دوام مراجعة الحفظ و تكرار التلاوة خشية النسيان، و قد ضرب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم هذا المثل لأنه أقرب في توضيح المقصود، كما أكد ذلك بالقسم تأكيدا على أهمية تعاهد القرآن و مراجعة الحفظ. انتهى
و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، و متضافرة في التحذير الشديد، و الوعيد الأكيد لمن تغافل عن القرآن حتى تفلت من صدره، و لا سيما أئمة الصلاة، فإن الإمام المفرط في متابعة القرآن الكريم و مراجعته لا يفسد على نفسه فقط، بل يفسد على المسلمين صلاتهم، و حسبه بذلك جرما و مخالفة، و الله تعالى اعلم.
فصل في بيان مشروعية الفتح على الإمام
و الرد على من أنكرها
1 - عن سهل بن سعد، رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، و حانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر الصديق، رضى الله عنه، فقال: أتصلى في الناس فأقيم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و الناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، و كان أبو بكر لا يلتفت فى صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق، التفت أبو بكر، فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن اثبت مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله تعالى على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، و تقدم النبى صلى الله عليه وآله وسلم فصلى، فلما انصرف، قال:" با أبا بكر، ما منعنك أن تلبث إذ أمرتك؟ " فقال أبو بكر: ما كان لابن أبى قحافة أن يصلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" مالي رأيتكم أكثرتم من التصفيق؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إن سبح التفت اليه، و إنما التصفيق للنساء." [1]
1 - 1 - حديث صحيح جداً، بل هوأصح شيء في الباب، تتابع الأئمة على إخراجه في كتبهم ومصنفاتهم
فقد أخرجه إمام دار الهجرة ماللك بن أنس فى" موطأ يحي" كتاب قصر الصلاة فى السفر، باب: الالتفات و التصفيق عند الحاجة فى الصلاة، (1/ 161/399)، ومن طريقه إمام الأئمة أبو عبد الله الشافعى فى" مسنده" من كتاب الأمالي فى الصلاة، الذى يقول الربيع: حدثنا الشافعى [199 - ترقيمى]، وكذا الإمام أحمد (5/ 337)، والبخارى [684] فى الأذان، باب: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول، و مسلم (421) [102] في الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلى بهم إذا تأخر الإمام، و لم يخافوا مفسدة بالتقديم.
الكل من طريق مالك، عن أبى حازم سلمة بن دينار، عن سهل بن سعد به.
البيان
¥