وليس أدل على ذلك من أنه عمل من أجل العودة إلى وطنه والاستقرار فيه، كي يضع حداً لتلك الغربة، حيث عاد إليه عام 1970 وحصل على الثانوية العامة التي كان حصوله عليها شرطاً للعمل في ملاك وزارة التربية والتعليم السورية، وهو مَنْ هو علماً وأدباً وشاعرية! غير أنه لا مناص من الاعتراف بأنَّ هذه الغربة هي التي أرهفت إحساسه، وأنضجت موهبته، وصقلت شاعريته، وسمت بعواطفه إلى آفاق ماكانت لتسمو إليها لو أنه ظل رهيناً لرياض العاصي ومغاني حماة.
يقول الشاعر رضا رجب في كلمته التي ألقاها في حفل التأبين الذي أقيم للشاعر بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته: "الشعر بحد ذاته مأساة وغربة، والشاعر غريب دائماً، وفي شخص الشاعر الكبير المرحوم علي دمر اتحد الشاعر المطلق غريباً بالشاعر الذي عاش غريباً ومات في ديار الغربة".
مراحل تعليم الشاعر: في جامع العز الذي يشاهد ماثلاً على الطرف الجنوبي الغربي من جسر الأسد في حيّ باب الجسر بحماه، كان لجمعية أعمال البر الإسلامية التي كان يشرف عليها الشيخ سعيد النعسان قاضي حماة الأسبق مدرسة تُدعى "مدرسة أبي الفداء الأهلية" وهي مدرسة يرتادها أبناء ذلك الحي النائي وماحوله من الأحياء الفقيرة المحرومة من الخدمات التعليمية.
في هذه المدرسة بدأ علي دمر يتلقى تعليمه الابتدائي بعد أن أشار الشيخ سعيد النعسان على عمه بإلحاقه بها.
تعلم عليٌّ القرآن على يد الشيخ عبد الرزاق الياسين الذي كان يُعنى عنايةً فائقةً بحسن اللفظ، وأحكام التلاوة. ولما تُوفي هذا الشيخ عام 1938 خلفه الشيخ صالح الكرو الذي كان معجباً بصوت التلميذ الصغير عليّ، فكان يكلّفه ترتيل آيات لقّنه إياها من آخر سورة الفتح كل يوم خميس على زملائه.
وفي آخر كل عام دراسي كانت المدرسة تقيم حفل تكريم للناجحين تدعو إليه رجال الحيّ وأولياء أمور التلاميذ. وكان يشرف على هذا اللون من النشاط المعلم سليمان المصري الذي اكتشف في علي القدرة على التمثيل مما جعله يسند إليه دور عمر بن الخطاب، وهو الدور الرئيس في المسرحية التي قدمها التلاميذ عام 1939م، وقد برزت هذه الموهبة وموهبة إلقاء الشعر لدى عليّ وهو لم يتعدّ الثانية عشرة من عمره. وأذكر أن حبه للتمثيل قد ظل ملازماً له حتى المرحلة الجامعية حيث شاهدته وهو يؤدي دوراً كوميدياً رئيساً في إحدى المسرحيات التي قدمها طلاب فريق التمثيل في كلية اللغة العربية، عام 1953 في قاعة الأزهر الكبرى للمحاضرات.
وكان عليّ يكره اللغة الفرنسية، ويمقت معلمها أشدّ المقت، وينفر منه ومن دروسه التي كان يتعمّد التغيب عن معظمها. وقبل أن يكمل عليّ تعليمه في هذه المدرسة التحق بالمدرسة المحمدية الشرعية في حماه، وكانت قد افتتحت حديثاً. وفي هذه المدرسة برزت البوادر الشعرية الأولى لدى عليّ. وكان الشعر عنده في هذه البداية نوعاً من اللعب. وليس ذلك بالأمر المستغرب أو المستهجن فقد أثبت علماء التربية أن كل إبداع فنيّ إنما يجد بذوره الأولى في اللعب العفوي المبكر لدى الصغار.
وما أن بلغ عليّ الصف الخامس الابتدائي حتى بدأ ينظم مقطوعات صغيرة يتلوها على رفاقه، ويداعب بها بعضهم أحياناً. وكان الامتحان الشفوي في تلك المدرسة يجري أمام لجنة من الضيوف المميّزين، وكلهم من أعلام المدينة في الأدب والعلم، ومن أصحاب العمائم والطرابيش.
وحين جاء دور عليّ ذكر الشيخ المرحوم محمود الشقفة للحاضرين أن الفتى عليّ يقرض الشعر. وكان بينهم شاعر حماة الكبير المرحوم بدر الدين الحامد فاستنشده.
ومكث عليّ بين أيديهم فترة غير قصيرة وهو ينشدهم من شعره. وقد أعجب به بدر الدين الحامد -رحمه الله- فغمره بعطفه ورعايته وتوجيهه، وهنّأه على موهبته. وحين أصدر عليٌّ مجموعته الشعرية الأولى "رعشات" قدّم لها بدر الدين بقوله:
"ياعليّ؛ قرأت في وجهك آية الشعر، وسمعت من صوتك نغمة الفن، وكنت كلما مرّت الأيام أتتبّع ماتفيض به قريحتك فأقرأ وأطرب وأعجب وأقول لمن يسألني عنك: إن هذا الفتى شاعرٌ موهوب.
أنت هزار على فننٍ مورق في حديقةٍ وارفة الظلال، فغرّد ولك من الجمال والجلال والمجد والعظمة والبسمة والدمعة ألحانٌ تملأ جوَّ الحياة شعراً وفناً.
إنك في أول الطريق فسر قدماً، وأرجو أن تبلغ في الشعر ذروة المجد وأنت الراشد الموفّق".
¥