قال ابن جرير الطبري في تفسيره (9/ 270): (وقال آخرون توبته من ذلك صلاح حاله وندمه على ما فرط منه من ذلك، والاستغفار منه، وتركه العود في مثل ذلك من الجرم، وذلك قول جماعة من التابعين وغيرهم، وقد ذكرنا بعض قائليه فيما مضى، وهو قول مالك بن أنس، وهذا القول أولى القولين في ذلك بالصواب، لأن الله ـ تعالى ذكره ـ جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيمان تركه العود منه والندم على ما سلف منه، واستغفار ربه منه فيما كان من ذنب بين العبد وبينه، دونما كان من حقوق عباده ومظالمهم بينهم. والقاذف إذا أقيم عليه فيه الحد، أو عفي عنه فلم يبق عليه إلا توبته من جرمه بينه وبين ربه، فسبيل توبته منه سبيل توبته من سائر أجرامه، فإذا كان الصحيح من القول ما وصفنا فتأويل الكلام: أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من جرمهم الذي اجترموه من قذفهم المحصنات من بعد اجترامهموه (فإن الله غفور رحيم) يقول: ساتر على ذنوبهم بعفوه لهم عنها، رحيم بهم بعد التوبة أن يعذبهم عليها، فاقبلوا شهادتهم ولا تسموهم فسقة بل سموهم بأسمائهم التي هي لهم في حال توبتهم) أ. هـ.
وقال القرطبي في تفسيره (12/ 179 ـ 181): " وقال الجمهور: الاستثناء عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وإنما كان ردها لعلة الفسق، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده، وهو قول عامة الفقهاء، وأجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما دون ذلك أولى والله اعلم.
وقال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته. قال: وقوله (أبدا) أي مادام قاذفا، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن معناه ما دام كافرا. وقال الشعبي للمخالف في هذه المسالة: يقبل الله توبته ولا تقبلون شهادته. وقال مالك ـ رحمه الله تعالى ـ: توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب نفسه، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه، وترك العود إلى مثله وهو قول ابن جرير. انتهى كلامه.
فأبو بكرة ـ رضي الله عنه ـ التوبة النصوح حاصلة منه إن شاء الله، وهذا الذي يجب أن يظن به، فهو صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو حريص على ما يقربه من مولاه سبحانه، ودعوة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حقه مستجابة حين قال له: " زادك الله حرصا ولا تعد " أخرجه أحمد وغيره صحيح الجامع رقم (559) وجلده لا يقدح في قبول روايته، فإنه لم يجلد في جريمة إنما جلد في حد قذف لم يستكمل فيه نصاب الشهادة.
سابعا: تفريق العلماء بين الشهادة والرواية:ـ
فرق العلماء بين الشهادة والرواية، فلا يلزم من عدم قبول شهادة رجل عدم قبول روايته،فالشهادة يطلب فيها مزيد تثبت لا يطلب في الرواية، كالعدد والحرية وغير ذلك. لذلك احتج البخاري ومسلم وغيرهما بحديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ مع علمهم بقصة جلده.
ذكر العيني في كتابه عمدة القاري شرح صحيح البخاري (7/ 207) عن الإسماعيلي في كتابه المدخل، إذا لم يثبت هذا كيف رواه البخاري في صحيحه؟ وأجيب بأن الخبر مخالف للشهادة، ولهذا لم يتوقف أحد من أهل المصر عن الرواية عنه، ولاطعن أحد على روايته من هذه الجهة، مع إجماعهم أن لا شهادة لمحدود في قذف غير ثابت، فصار قبول خبره جاريا مجرى الإجماع وفيه ما فيه.
وقال أبو عبد الله الزركشي: " إذا جاء القاذف مجيء الشاهد كما في قصة الذين شهدوا على المغيرة، فإن شهادته ترد دون روايته، بدليل ما تقدم عن عمر في حق أبي بكرة ـ رضي الله عنهما ـ، مع أنه مقبول الرواية بلا تردد، بخلاف من قصد الشتم والقذف، فإن شهادته وخبره وفتياه لا يقبلن حتى يتوب ". (شرح الزركشي على الخرقي 3/ 407)
ثامنا: سبب امتناع أبي بكرة عن التوبة عندما دعاه عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى تكذيب نفسه:ـ
امتنع أبو بكرة ـ رضي الله عنه ـ من أن يتوب عندما دعاه عمر ـ رضي الله عنه ـ للتوبة بعد أن جلده للآتي:
1. لم ير أبو بكرة ما يراه عمر ـ رضي الله عنه الله عنه ـ من اشتراط تكذيب القاذف نفسه لقبول توبته وشهادته.
2. أبو بكرة يفرق بين الشاهد والقاذف.
3. يرى أبو بكرة أنه كان صادقا فيما أدلى به من الشهادة فمم يتوب إذ ا؟!
¥