القرآن [6]، فعندما يقول سبحانه:] ولاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [نجد الصحابة
يفهمون هذا التوجيه ويلتزمون به، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يعلم معنى
كلمة] وَاباً [من آية] وفَاكِهَةً وأَباً [فلا يتكلف الجواب ولا يحاول التعالم، بل
يرى أنه من التكلف معرفة كل شيء، وأبو بكر -رضي الله عنه- يقوم بعمل علمي
طبقاً لمنهج، عندما أعطى تعليمات مشددة لزيد بن ثابت، الذي كلفه بجمع القرآن،
وكذلك عثمان بن عفان يشكل لجنة لجمع الناس على مصحف واحد [7].
وفهم الكتاب والسنة هو الذي جعل الإمام مالك والأوزاعي وأمثالهما يكرهون
الجدل والخصومات في الدين ويركزون على العمل، وقد وضح هذا المنهج بشكل
نظري في كتابات ابن تيمية وخاصة كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وكان
بالإمكان بناء نهضة علمية عملية لو أخذ المسلمون بهذا المنهج، ولكنهم مع الأسف
غرقوا في الجدل وعلم الكلام فأبعدوا عن مجالات القيادة.
والجدل أسهل من البحث والاستقراء والخروج بنتائج في شتى مجالات العلوم.
وإذا كان للمنهج هذه الأهمية (فإن نجاحه مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معاً
(الاستعمار والقابلية للاستعمار)، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية
مشكلة مزيفة) [8].
لذلك وقبل أن ننتقل إلى موضوع (إقلاع) العالم الإسلامي باتجاه بناء حضارة
لابد أن نعرض وجهة نظر مالك بن نبي في الاستعمار الذي هو الجانب الخارجي
من المشكلة، أو الجانب السلبي لنكون على وعي تام بما يدبر لإعاقة النهضة
الإسلامية.
الاستعمار والصراع الفكري:
إن عرض مشكلة الاستعمار يبدو أكثر أهمية إذا علمنا أنه ركز هجومه على
العالم الإسلامي، بينما كان أقل شراسة ولؤماً مع الشعوب الأخرى، وحاول
إجهاض أي عمل إسلامي مثمر، واستخدم أخبث الوسائل ومنها الوسائل الفكرية.
ومالك بن نبي وإن كان ممن لا يعلقون أخطاء وتقصير المسلمين على شجب
(الاستعمار) وحده بل يهتم بالعوامل الداخلية، ويرى أنها الأساس في البحث
والتحليل، إلا أنه خبير بخفايا هذا الاستعمار ومواقفه من قضايا المسلمين، لذلك
جاءت ملاحظاته وتعليقاته على هذا الجانب فيها عمق ومعاناة، فقد قرأ الكثير
وعانى الكثير من استعمار فرنسا للجزائر، وهو يرى أننا إذا أردنا أن نتقصى
الحركة الاستعمارية من أصولها فلا بد أن ننظر إليها كعلماء اجتماع لا كرجال
سياسة [9]، فظاهرة الاستعمار من طبيعة الرجل الأوربي، فكلما وقع اتصال بين
الأوربي وغير الأوربي خارج إطار أوربا فهناك (موقف استعماري) [10] بينما نجد
في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أن رحلات ابن بطوطة وأبو الفداء
والمسعودي لم تثر شهيتهم للاستعمار. ورحلات مثل هذه تثير شهية الأوربي، إن
تحليل (منوني) الكاتب المتخصص بنفسية الاستعمار، يقول:» إن الأوربي يحب
عالم دون بشر «ولو قال منوني إن الأوربي يحب عالم دون شهود على جريمته
لكان هوالصواب [11].
وحتى بعض الأفراد الغربيين الذين يشاركون في المعركة ضد الاستعمار إنما
يشاركون مادامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع
الصراع الفكري، فالرجل المستعمَر لا يحق له الدخول في الميدان الفكري «[12].
وفي ميدان الصراع الفكرى وخاصة مع الشباب المسلم الذي يدرس في الغرب
نرى الاستعمار يستخدم بخبث منطق الفعالية وخلاصته: (بما أننا نحن المسيطرون
ونحن الأقوى إذن فأفكارنا صحيحة).
(ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذا الشباب هو
النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكرى ومناوراته) [12]. وقد يرفع
الاستعمار أمام أعين المستعمرين شعاراً صحيحاً وهو يعلم أن المستعمرَ سيرفضه
لأن الذي رفعه عدو، وبهذا يكون قد صرفه عن عمل إيجابي قد يفكر فيه في
المستقبل.
يروي مالك بن نبي تجربة من تجاربه فيقول:» انعقد في باريس مؤتمر
العمال الجزائريين بأوربا، وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر
توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، ولكن
أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يفتهم أن يسدوا الطريق على الأفكار
المعروضة، ولذا وجهت الدعوة إلى السيدة الألمانية التي كتبت (شمس الله تشرق
على الغرب) وفيه مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية، وتقدمت السيدة وقدمت كتابها
¥