((مجلة البيان ـ العدد [17] صـ 39 شعبان 1409 ـ مارس 1989))
ـ[عبدالله بن خميس]ــــــــ[10 - 11 - 04, 09:42 م]ـ
نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
- 5 -
محمد العبدة
الإقلاع باتجاه حضارة:
التوتر الروحي، أو الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه الإنسان، والاندفاع فيه
والحماس له حتى يأخذ عليه مجامع نفسه ويملك عليه قلبه، هو بداية الإقلاع عند
مالك بن نبي كما ذكرنا في نهاية المقال السابق، فلكي نبني حضارة، أو نعيد دورة
الحضارة لابد أن نصل إلى هذا المستوى من الاندفاع في تطبيق الإسلام ..
يجب أن تعود شبكة العلاقات الاجتماعية لتربط العوالم الثلاثة (الأشخاص،
والأفكار، والأشياء) والمقصود بشبكة العلاقات هو القدرة على التعاون والتنسيق
بين هذه العوالم الثلاثة واستخدام الأفكار والأشياء في محلها -المطلوب منها،
والأخلاق العالية التي في ظلها يستطيع المجتمع إنتاج حضارته، والمؤاخاة الحقيقية
هي إحدى الدعائم الرئيسية للإقلاع، فالطاقة الروحية التي دفعت سعد بن عبادة لأن
يقول: (يا رسول الله خذ من أموالنا ما شئت، وما أخذته منها أحب إلينا مما تركت)
هي التي جعلت الصحابة يحفرون الخندق حول المدينة بأدوات بسيطة، وبأيام
قليلة، وهي التي كانت وراء اعتراف المرأة الغامدية، وهي تعلم أن عقوبة
اعترافها هو الرجم بالحجارة، وعندما تاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة
تبوك فرح المجتمع الإسلامي بأسره، فهو مجتمع متماسك وشبكة العلاقات فيه قوية.
هذه الطاقة ضرورية للبدء، لأن المسلم الآن قد لا يؤثر بالوسط المحيط به
بقدر ما يتأثر هو بهذا الوسط [1].
في المجتمع الإسلامي الأول كانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أعلى
المستويات، وعندما أفل نجم هذا المجتمع في القرون المتأخرة كان مجتمعاً مليئاً
بالأفكار (الكتب والمكتبات) ومليئاً بالأشياء، ولكنها لم تغن شيئاً لأن شبكة العلاقات
كانت قد تمزقت وأصبح عالم الأشخاص عاجزاً عن أي نشاط مشترك، وهذا هو
الذي أشار إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: (يوشك الأمم أن
تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال:
بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) [2].
كيف نعيد الفاعلية للمسلم؟ كيف نؤلف بين العوالم الثلاثة (الأشخاص
والأفكار والأشياء) بانسجام وتوازن؟ كيف نعالج أكبر مرض يصيب العلاقات
الاجتماعية ألا وهو مرض حب الذات أو تضخم (الأنا) عند الفرد؟.
- لا تعود الفاعلية للمسلم إلا بعودة ذلك الاندفاع في سبيل إقامة المجتمع
الإسلامي والدولة الإسلامية، ووضع طاقات الفرد في أحسن حالاتها، وفي أقصى
توترها، وهذا معنى قوله تعالى] يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ [، وأحسن حالاتها أن
توضع الطاقات بين حَدَّي الوعد والوعيد، بين الخوف والرجاء، فلا يأس من روح
الله، ولا أمن من مكر الله، وأن تتناسب مع التحدي المفروض عليها فلا هو أكبر
منها فتشعر باليأس، ولا هو أصغر منها فتتساهل وتسترخي ولا تقوم بالجهد
المطلوب.
جاء الإسلام فوضع طاقات العرب في موضعها المناسب، فالكرم والشجاعة
في الجاهلية كانا للفخر والاعتزاز، فوضعهما الإسلام في سبيل مبدأ، في سبيل الله،
فالبطولة أصبحت مبرراتها في عالم الآخرة ولم تعد تدور حول (الأنا) [3].
إن المجتمع لا يتكون من (كومة) أفراد، بل بعلاقات معينة بين هؤلاء الأفراد،
وإذا أخذنا نموذجا من عالم الحيوان فسنجد أنه كلما تعقدت المصلحة كلما كانت
الفاعلية أكثر، هناك حيوان يعيش بمفرده، بعيدا عن نظام الأسرة، ونشاطه يسد
فقط حاجات بيولوجية بسيطة، فإذا نظرنا بعد ذلك إلى حيوان يعيش في مستوى
أعلى من هذا، فإننا نرى العش الذي يبنيه الطير يعطي صورة للنشاط الاجتماعي
في مستوى أرقى، ولكنه دون مستوى الحيوان الذي يعيش في نظام أوسع نطاقاً من
الأسرة كالنحل، فإنتاجه هنا يتسم بالفاعلية في صورتين: مادية ومعنوية، فمن
الناحية الأولى نرى أن نشاط النحل ينتج أكثر من حاجات سربه، ومن الناحية
المعنوية نرى أن هذا الإنتاج يفرض على خليته حياة منظمة خاضعة لقوانين معينة،
نجد في هذا المجتمع البسيط ظاهرة تقسيم العمل، وقد تزيد مهامها على عشرة
أنواع من العمل [4].
¥