إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه، فلما كان الحاج أول ما يقدم سن له تقبيله نزل منزلة
يمين الله،] وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى [(النحل: 60). ا هـ.
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم
لتغالوا في ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض، ولوضعوه في
أشرف مكان من هياكل التحف والآثار القديمة، ولحج وفودهم إلى رؤيته وتمنى
الملايين منهم لو تيسر لهم لمسه واستلامه، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه
من وضع إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار
الملوك أو الصناع.
هذا، وإن من مقاصد الحج النافعة: تذكر نشأة الإسلام دين التوحيد والفطرة
في أقدم معابده، وإحياء شعائر إبراهيم التي طمستها وشوهتها الجاهلية بوثنيتها
فطهرها الله ببعثة ولده محمد الذي استجاب الله به دعوته:] رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [(البقرة: 129)
عليهما الصلاة والسلام.
روى أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع،
(كمنبر واسمه) يزيد الأنصاري ونحن بعرفة، في مكان يباعده عمرو عن الإمام [1]
فقال أما إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول لكم: (قفوا على
مشاعركم فإنكم على إرث من أبيكم إبراهيم) هذا سياق أبي داود وقد سكت عليه.
وقال الترمذي: حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث
ابن عيينة عن عمرو بن دينار.
وجملة القول أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم وقد أبطل الإسلام كل ما
ابتدعته الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها كطوافهم بالبيت عراة، وإن الكعبة
من بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع
المتواتر بينهم وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم بل والبعيدة عنهم كالهنود،
ومن الثابت أيضا أنهم لما جددوا بناءها أبقوا الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم
وإنما اقتصروا من جهة الركنين الشاميين، ولذلك ورد استلام الركنين اليمانيين دون
غيرهما، ويقال لأحدهما الركن الأسود؛ لأن فيه الحجر الأسود وللآخر اليماني فإذا
ثنوهما قالوا اليمانيين تغليبًا كما يقولون في تثنية الركن الشامي والركن العراقي
الشاميين.
ولما كانت الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم
باليقين أنه من وضع إبراهيم إلا الحجر الأسود لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف
كان هو الأثر الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك
بوضعها وموضعها وسائر خصائصها، زادها الله حفظًا وشرفًا. وقد علم بهذا أن
الحجر له مزية تاريخية دينية، وإن كان الأصل في وضعه بلون مخالف للون البناء
اهتداء للناس بسهولة إلى جعله مبدأً للطواف، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول: إن لله
تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر،
فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام
والمشعر الحرام وشهر رمضان والأشهر الحرم، ومبنى العبادات على الاتباع لا
على الرأي.
* * *
حكمة رمي الجمار
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج أعني
بها مما تَعَبَّدَنا الله تعالى بها لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال سواء عرفنا سبب كل
عمل منها وحكمته أم لا، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام
الموحدين المخلصين، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى، وإن لاستحضار
ذلك لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به، والثقة بأنه دين الله
الخالص الذي لا يقبل غيره، فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها
لا يضرنا ذلك، ولا يثنينا عن إقامتها كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب
من عدة أجزاء، وجهلنا سبب كون بعضها أكثر من بعض، فإن ذلك لا يثنينا
عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به، ولا يدعونا إلى التوقف وترك استعماله إلى
أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء ومقاديرها.
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة أن هذه المواضع التي
تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام فشرع لنا أن نقف
¥