فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [(الحج:
27) والرجال هنا جمع رَاجِل، وهو الماشي على رجليه، أي يأتوك مشاةً
وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة.
فمعنى (لبيك اللهم) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها
إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة. والتلبية واجبة عند المالكية، ومسنونة عند
الجمهور.
وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك
إلى الانتهاء منه. ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط
والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق.
...
دخول مكة والطواف
يستحب الاغتسال لدخول مكة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يغتسل له وكان يبيت (بذي طُوى) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها: آبار
الزاهر، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة.
والأفضل دخول مكة نهارًا، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا، والأفضل أن
يدخل من باب بني شيبة؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة -: (اللهم زد هذا البيت
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من شرفه وكرّمه، ممن حجه أو اعتمر
تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا) وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا نظر
إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام).
واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء، وما يلقنه المطوفون
للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما
هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى -
ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك. فعُلم من ذلك
أن ما لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع
منه، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة؛
لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس
ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه. ويُسن أن يصلي بعد الطواف
ركعتين.
والثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ
بالطواف، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم، وهو واجب
عند المالكية، وسنة عند الأئمة الثلاثة.
ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر
العورة، لما رواه الشافعي و الترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون
فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في
الطواف، أي: وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع
في هذه العبادة.
ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف، امتنع الطواف على الحائض
والنفساء، فهي تؤدي جميع أعمال الحج سواه، فتتربص به إلى أن تطهر، ويبتدئ
من الحجر الأسود: يستقبله ويستلمه ويقبّله، إن أمكن من غير إيذاء نفسه أو إيذاء
أحد بالمزاحمة، وإلا اكتفى باستلامه بيده - أي مسحه بها - وتقبيلها، فإن لم يمكن
أشار إليه بيده. ثم يشرع في الطواف فيجعل البيت عن يساره، فيطوف به سبعة
أشواط أي: مرات. ويستلم من الأركان الركنين اليمانيين؛ لأنهما على قواعد
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - دون الشاميين؛ لأنهما في داخل البيت.
والركنان اليمانيان هما الجنوبيان، ويسمى الذي فيه الحجر الأسود منهما
(الركن الأسود) إذا ذُكر وحده، وإذا ذُكر الآخر وحده قيل: الركن اليماني.
والشاميان هما الشماليان، فإذا ذُكر كل منهما وحده قيل: (الركن الشامي) وهو
المقابل لبلاد الشام (والركن العراقي) وهو المقابل لبلاد العراق، وإنما يقال في
تثنيتهما: اليمانيان والشاميان من باب التغليب.
هذا، وإن في الحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم الذي ذكرناه، وطواف
الإفاضة، وهو ركن من أركان الحج باتفاق الأئمة، ووقته بعد الوقوف بعرفة،
¥