تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فهذه التي أسماها الرجل هدية إنما هي سحت وغلول، فمجرد التسمية لا يغير من الحقيقة شيئاً، وإنما هي من التحايل المذموم على الشرع. ولذلك ذكر البخاري رحمه الله هذه القصة في كتاب الحيل. والتحايل لا يجعل الحرام حلالاً، بل يزيده تحريماً، لأنه يجمع بين حرمة الفعل وبين حرمة التحايل والتدليس.

فيقال لمن يسمي مبلغ الـ 15000 ريالاً هبة أو هدية: هلا جلست في بيت أبيك وأمك فتنظر هل يهدى إليك هذا المبلغ أم لا؟ فهذه الهدية لا تعطى إلا لمن اشترى ودفع الثمن، فتكون إذن جزءاً من المعاوضة، وليست هبة كما سموها.

وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري: "إنك بأرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا". فبين رضي الله عنه أن هذه التي تبدو هدية ظاهراً هي ربا في حقيقتها، وإخراجها على صورة هدية لا يغير من الحكم شيئاً. وعبد الله بن سلام رضي الله عنه كان من أحبار اليهود قبل أن يسلم، فهو خبير بالربا وصوره وأنواعه. فقوله هذا مبني على علم وخبرة بحقيقة الربا، مع ما منّ الله به عليه من العلم والفقه والصحبة.

ولذلك قرر شيخ الإسلام أن الهدية إذا وجدت لسبب أخذت حكم ذلك السبب، وجعل ذلك من أصول الشريعة: "وهو أن كل من أهدي له شئ أو وهب له شئ بسبب، فإنه يثبت له حكم ذلك السبب، بحيث يستحق من يستحق ذلك السبب، ويثبت بثبوته، ويزول بزواله، ويحرم بحرمته، ويحل بحله حيث جاز له قبول الهدية. مثل من أُهدي له للقَرض، فإنه يثبت له حكم بدل القَرض. وكذلك من أُهدي له لولاية مشتركة بينه وبين غيره، كالإمام وأمير الجيش وساعي الصدقات، فإنه يثبت في الهدية حكم ذلك الاشتراك. ولو كانت الهدية قبل العقد (أي عقد النكاح)، وقد وعدوه بالنكاح فزوجوا غيره، رجع بها" (الاختيارات ص334) وهذا يرجع في النهاية إلى قاعدة الشريعة في اعتبار المقاصد والنيات، وهي قاعدة كلية ثبتت من نصوص متواترة تبلغ حد القطع.

إذا ثبت ذلك فإن ما سمي هبة في هذه المعاملة ما هو في الحقيقة إلا عوض عن الثمن المدفوع، إذ لا يحصل على الهبة إلا من اشترى ودفع الثمن. ولما كان هذا العوض هو المقصود أساساً، وكان احتمالياً قد يحصل وقد لا يحصل، فالمعاملة إذن من الميسر المحرم بالنص والإجماع. ولا يفيد تسمية العوض الاحتمالي هبة أو هدية إلا زيادة الإثم والتحريم، كما سبق.

ثانياً: حكم النظام بمجموعه

سبق أن مصدر "الهبة" في هذه المعاملة هو مشتريات المتسوقين التالين للمتسوق الأول، وكل من يحصل على الهبة إنما يحصل عليها ممن يأتي بعده من المتسوقين. فالطبقات الأخيرة من المتسوقين لا تربح الهبة إلا إذا وجد بعدها طبقات جديدة. وهذا يعني أن من يكسب الهبة إنما يكسبها على حساب من يأتي بعده، وهذا لا يكسب إلا على حساب من بعده، وهكذا. فالطبقات الأخيرة دائماً خاسرة، لأن المقصود من الثمن هو الهبة كما سبق، والهبة لا تتحقق إلا بوجود طبقات تالية تتحمل هي الثمن لتحصل الهبة لمن سبقهم، وتحصل هي على الهبة ممن بعدهم. فلا يوجد من يربح إذن إلا بوجود من يخسر، وهذا هو حقيقة أكل المال بالباطل المحرم شرعاً.

أضف إلى ذلك أن من طبيعة النظام الهرمي الذي ينشأ بهذا الأسلوب أن الطبقات الدنيا الخاسرة أكبر بكثير من الطبقات العليا الرابحة. ورياضياً فإن نسبة من يربح في الهرم لا تتجاوز 6%، بينما 94% من أعضاء الهرم يخسرون. فالغالبية تخسر لكي تربح الأقلية، وهذا مع ما فيه من الظلم وأكل المال بالباطل، فإنه يؤدي إلى سوء تركيز الثروة الذي تحرمه جميع الشرائع التي تراعي العدالة الاجتماعية، فضلاً عن الشريعة الإسلامية.

فالنظام الهرمي في أصل طبيعته وتكوينه قائم على ربح الأقلية في أعلى الهرم على حساب الأكثرية ممن دونهم. وهذا النظام يجمع بين أكل المال بالباطل وبين سوء توزيع الثروة وتركيزها في يد الأقلية، وهي عين المفسدة التي تنشأ عن الربا والاحتكار، وحرمها القرآن بقوله تعالى: "كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم". فلا يشك عاقل درس هذا النظام وأدرك حقيقته وكيفية عمله أنه مناقض للشريعة الإسلامية مناقضة صريحة، فهو كما قيل: تصوره كاف في إبطاله.

الغاية لا تبرر الوسيلة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير