في الخاتمة التي ختم بها شيخ الإسلام الأصل الأول بسبع قواعد، جاء في القاعدة الأولى مقارنة بين السلف وبين المخالفين لهم اجمالا ً، ثم قارن بين المخالفين بعضهم ببعض. [33]
ذكر شيخ الإسلام أصلٌ للسلف في النفي، وهو أنهم لا يثبتون النفي المحض، بل يثبتون النفي المستلزم ثبوت كمال الضد، فنفي العجز يدل على كمال القدرة ... وهكذا.
ثم احتج لهذه الطريقة من القرآن وبأنها تفيد الكمال، وقابلها بطريقة المخالفين الذين ليس لديهم إلا النفي والسلب، ووصف طريقتهم بأنهم لم يثبتوا في الحقيقة إلها ً محمودا، بل ولا موجودا.
وفي هذه المقارنة رد للباطل باللازم، وهذا من أبدع الطرق في بيان الحق، فبعد أن أطال في تقرير الحق ذكر المذهب المخالف، وكما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
ثم بعد هذا عقد مقارنة ـ على ضوء القاعدة ـ بين الذين ينفون الصفات وبين من ينفون عن الله النقيضين.
قال شيخ الإسلام: (واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين، حتى يقولوا: ليس بموجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي.
ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول، كالجمع بين النقيضين.
وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير.
وهؤلاء [34] أعظم كفراً من أولئك [35] من وجه، وأولئك أعظم كفراً من هؤلاء من وجه).
وبيان هذه المقارنة:
أما في الوجه الأول:
هو أن النفاة بالنفي نفوا صفة الكمال عن الله، كالقدرة، فيلزم اتصافه بنقيضها، أما النفاة للنقيضين فإنهم نفوا عن المعبود صفة النقص كما نفوا صفة الكمال، فصاروا أخف من النفاة بالنفي.
أما الوجه الثاني:
هو أن النفاة بالنفي سلبوا أحد النقيضين، أما النفاة للنقيضين سلبوا النقيضان عن المعبود فشبهوه بالممتنعات، أما النفاة بالنفي فسلبوا وصفا ً واحدا ً فشبهوه بالجمادات والمعدومات، والتشبيه بالممتنع أقبح من التشبيه بالموجودات والمعدومات.
وهذا معنى قول شيخ الإسلام: وهؤلاء أعظم كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظم كفرا ً من هؤلاء من وجه.
المثال السادس:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الثالثة قول القائل: ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟ [36]
ثم استخدم لهذا الاعتراض منهج التحليل والنقد، فقد أفرد أجزاء هذا القول وبين أن الظاهر لفظ فيه إجمال واشتراك، فإذا كان يريد أن ظاهر الصفات تفيد التشبيه بالمخلوقات، فهذا غير مراد، ونقد هذا القول وبين غلطه.
قال شيخ الإسلام: (ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا ً وباطلا ً، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال) [37].
ثم انتقل إلى الجزء الآخر من المذهب وبين إن كان المراد بظاهر نصوص الصفات هي المعاني الحقة اللائقة بالله فهذا لا شك أنه مراد.
ثم في نهاية القاعدة الثالثة عقد مقارنة بين السلف والأشاعرة والمعتزلة بجعله افتراضا ً ثالثا ً للفظ الظاهر، وهو:
أنه إن كان يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع فيها ـ عدا السبع ـ غير مراد رجع إلى الحالة الأولى.
وإن كان يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها مثل ظاهر النصوص المتفق في معناها فهذا مراد وحق، ويكون رجع إلى مذهب السلف.
وهذه مقارنة في غاية الحسن والجمال من شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ بين السلف والمعتزلة ووضع بينهم الأشاعرة، بعد أن عرض مذهبهم ونقده.
المثال السابع:
في الأصل الثاني ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ توحيد العبادة، ثم عقد مقارنة بين التوحيد الذي جاءت به الرسل مع التوحيد عند المتكلمين وناقشهم فيه وهو أن غاية التوحيد الذي عندهم هو توحيد الربوبية، ثم ذكر التوحيد عند أصناف الجهمية وبين أن التوحيد عندهم هو نفي الصفات، بعد ذلك ذكر التوحيد عند الصوفية وهو أن يشهد بأن الله رب كل شيء ومليكه.
وفي أثناء كلامه عن التوحيد عند كل طائفة ذكر شيخ الإسلام التوحيد الذي أقر به مشركوا العرب، وهو توحيد الربوبية وأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ولم يقروا بأن الله هو المعبود وحده لا معبود سواه.
¥