بعد أن أتممنا المقدمة الموجزة فى امتزاج العلوم لم يتبق لنا الا الشق الرئيسى فى البحث
وهى العلاقة بين علم الأصول وعلم الكلام
فلنعرف فى البداية علم الكلام نقلا عن ابن خلدون فى مقدمته
(هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الايمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين فى الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة)
ومن ثم سنبحث العلاقة الجدلية بين العلمين من ناحيتين
1 - العلاقة بين منهج علم الأصول والمنهج الكلامى
2 - طبيعة العلمين المتداخلة أو المسائل المشتركة بينهما
أولا الحديث عن علاقة العلمين من حيث المنهج
يرى د على سامى النشار- استاذ الفلسفة الاسلامية- إن المسلمين أنشأوا منهجا بحثيا خاصا بهم
وقد استخدم هذا المنهج فى علم الكلام كما استخدم فى علم أصول الفقه
وننقل عنه من رسالة الماجستير خاصته والمعنونة ب (مناهج البحث عند مفكرى الاسلام) عند الحديث عن مدرسة المتكلمين الأصولية -بعد فراغه من تعريف مدرسة الفقهاء- ما نصه
(وهم المتكلمون أشاعرة كانوا أو معتزلة وهنا نرى محاولة عقلية بحتة تقوم على تجريد القواعد العامة
من المسائل الفقهية وتستند فى هذا الى الاستدلال العقلى والبرهنة النظرية فاستخدمت طرق البحث الكلامية
أو مدارك العقول التى عرفت قبل الشافعى فى المدرسة الأصولية الكلامية ووضعت تلك الطرق وخاصة طريق القياس فى صورة عقلية مجردة ودخلت أبحاث كلامية كثيرة لما كان علم الكلام معتبرا واحدا من مصادر هذا العلم الثلاثة لا لدى المتكلمين وحدهم بل ولدى الفقهاء حتى الظاهرية منهم)
ان هذا التداخل المنهجى جعل التأثير بين العلمين متبادلا وتسبب فى ادخال مسائل كل من العلمين وطرقه ومناهجه الى العلم الاخر – كما يؤكد صاحب رسالة تطور علم أصول الفقه وتجدده
بل لم تعد هناك (طرق منفصلة لاحدى هاتين الفرقتين بل استخدمت كل منهما نفس الطرق التى استخدمها الأقران) كما يقول د النشار
ومن هذه النقول نستطيع أن نتفهم الأسباب التى دعت الباقلانى الى تلك النقلة النوعية فى منهجية دراسة الأصول
لان بعد ظهور المعتزلة وظهور فرقة الأشاعرة للرد عليهم ظهرت تلك المناهج العقلية لتعصم ذهن المتكلم ومن ثم الفقيه من الانحراف
ولما كان القائمين على تأسيس علم الأصول- فى طوره الثانى- جلهم من المتكلمين (معتزلة وأشاعرة)
فانتقلت منهجية البحث من علم الكلام الى علم الأصول وانتهجوا نفس النهج العقلى النظرى التجريدى فى بحثهم
لمدارك الأحكام الفقهية
هذا بعكس طريقة مدرسة الفقهاء (الأحناف) التى اهتمت بتأصيل فروعهم الفقهية على أصول امامهم
وهذه الطريقة وان كانت اليق بالفقه وأقرب لضبط المذهب ولكن يعيبها أنها غير منتجة
فهم يخرجون الفروع على اساس اصول مذهبهم الثابتة ومن ثم فلا جديد ولا تجديد
وهم وان لم يبحثوا علم الأصول بتلك الطريقة التجريدية ولم يمزجوه بعلم الكلام فى البداية
الا ان متأخريهم قد ساروا على درب المتكلمين ومزجوا أصولهم بالمنهج التجريدى والمباحث الكلامية
ومن الأمانة العلمية أن نذكر قيام بعض الحركات الفردية بمعارضة طريقة المتكلمين ودعت الى تجريد الأصول
من المباحث الكلامية مثل مصنفات ابن عبد البر والباجى والسمعانى والخطيب البغدادى وابن القيم وغيرهم
ولكن ظلت تلك الحركات الفردية منفصلة عن بعضها زمنيا ومكانيا لا تمثل نهجا متواصلا- كمدرسة المتكلمين-
ومن أهم هذه الحركات ظهور كتاب الموافقات للشاطبى والذى يعد نقلة نوعية أخرى لمزجه أصول الفقه بالمقاصد الشرعية وليس الشاطبى أول من تكلم فى مقاصد الشريعة ولكن المقاصد تجلت فى مصنفه هذا مما جعله علامة فريدة فى علم الأصول ولكن هذا لا يجعله ندا للمدارس الأصولية الموجودة انذاك ولا بديلا عنها
ومن الباحثين من يرى ان امتزاج أصول الفقه بالكلام بسبب هيمنة علم الكلام على جميع العلوم الشرعية
من حيث هو مبدأ لها ومن حيث أن تفسير النصوص قائم على حجيتها والتى ثبتت بعلم الكلام
وكذلك فان طريقة الاسئلة الممتدة تجعل الباحث يمتد من علم الأصول الى علم الكلام
فالأصولى مثلا يبحث عن علة تحريم الخمر فيبحث بأدواته حتى يصل الى أن العلة (الوصف الظاهر المنضبط)
هى الاسكار فيسأل نفسه مرة أخرى ولم جعل الاسكار علة مناسبة للتحريم
ويجيب بأن الاسكار يؤدى لذهاب العقل والعقل مناط التكليف والتكليف انما يكون لتحقيق مراد الله من خلقه
فيجد الباحث أن اسئلته قد انتقلت بالرتبة من علم الأصول الى علم الكلام وهكذا
(راجع علاقة أصول الفقه بالفلسفة الاسلامية د على جمعة)
وهذا الكلام وان كان يفسر لنا بعض التداخل بين العلمين على اساس ان الكلام هو أرضية مشتركة للعلوم الشرعية جميعا لكنه لا يفسر لنا المزج الحادث بين العلمين بهذه الصورة ولا يفسر وجود مسائل عقدية بحتة
تبحث فى علم الأصول
وبهذا القول نكون قد أتمننا نقطة البحث المنهجى المشترك بين العلمين
وننبه على أننا فى بحثنا هذا لا نبحث صحة الأساس العقدى للأشاعرة أو للمعتزلة انما نبحث –كما اسلفنا-
طبيعة العلاقة الجدلية بين الأصلين
ويتبقى لنا بعد بحثنا النظرى البحث العملى فى المسائل المشتركة بين العلمين
يتبع بحول الله وقوته
¥