أما الآن و الحمد لله، الكُنُفُ في البيوت، و زاد على ذلك المراحيض، فنحن في نعمة كبيرة، و الحمد لله.
الفائدة 91
ثم ذكر رحمه الله النوع الرابع، و هو الاستعارة فقال:
55ـ رابعُها كقوله تعالى
يريدُ أن يَنقضَّ يعني مالا
في سورة الكهف: (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه).
قالوا لا يمكن أن يريد الجدار، فالإرادة لا تكون إلا من ذي الشعور، و الجدار لا شعور له، فمعنى يريد أن ينقض، يعني: مال.
فيكون معنى وجدا فيها جدارا يريد أن ينقض. يعني: وجدا فيها جدارا مائلا. هذه يسمونها استعارة، و هل هي استعارة تصريحية أم مكنية؟
التفصيل في هذا له باب آخر و درس آخر.
لكن هي في هذه الآية مكنية.
و كيف إجراؤها؟ يقولون:
شُبِّهَ الجدار بذي شعور، له إرادة، و استعير المشبه به للجدار، يعني: كأنك شبهت الجدار بإنسان، ثم حذف المشبه به، و هو الإنسان، و رمز إليه بشيء من لوازمه، و هو الإرادة.هذا كلامهم.
فمعناه أننا شبهنا الجدار بإنسان له إرادة، و أين الانسان، فالذي معنا الآن المشبه الذي هو الجدار؟
قالوا: الإنسان و قد حُذف، و رُمز إليه بشيء من لوازمه، و هو الإرادة، يريد: فصار تقدير الكلام على قولهم: فوجد فيه جدارا يشبه الإنسان، يريد أن ينقض، و لا شك أنه لو عُبر بهذا التعبير لكن الكلام من أَرَكِّ ما يكون من الكلام، و مع ذلك يقولون: هذا هو أصل الكلام.
الرد على أمثلة المصنف و بيان أنه لا مجاز في اللغة العربية لا في القرآن و لا في السُنّة و لا في غيرهما:
الفائدة 92
و نحن نجيب عن كل هذه الأمثلة، فنقول: الصواب أنه لا مجاز في اللغة العربية، لا في القرآن، و لا في السنة، و لا في غيرهما، و ذلك لأن المجاز أصدق ما يكون فيه هو الذي يصح نفيه، و نفي المعنى المراد بمقتضى سياقه أو لفظه لا يمكن أبداً.
الفائدة 93
فالمثال الأول، و هو قوله: (و اسأل القرية).
من الذي يقول: إن أبناء يعقوب أرادوا أن يقولوا لأبيهم: اذهب إلى كل جدار، وقِفْ عنده واسأل، هل هذا هو المعنى المتبادر من اللفظ: (و اسأل القرية)؟ و هل يمكن لعاقل أن يقول: إن هذا هو مراده؟
الجواب: لا يمكن أبدا، فكل يعرف أن المراد ب (و اسأل القرية) يعني: أهلها، فالقرية إذن الآن مستعملة في المعنى الحقيقي، لأن المعتبر بالمعنى هو السياق كله، و ليس كل كلمة بحالها، فكل كلمة وحدها لا تفيد معنى، و قد سبق أن قلنا: إن الكلام هو اللفظ المفيد، فالكلمة وحدها لا تفيد معنى، لا يمكن أن يتم المعنى إلا بالسياق، و السياق في قوله: (و اسأل القرية) لا يمكن أن يراد به سؤال الجدران أبدا، و حينئذ لا مجاز، لأن مقتضى السياق يمنع أن يكون المراد به سوى سؤال أهل القرية، فيكون كلامه حقيقية بمقتضى السياق، فبطل أن يكون المراد التجوز، و لهذا قال الله:
(وكم من قرية أهلكناها) الأعراف:4
هل الجدران تظلم؟
الجواب: لا، فالذي يظلم أبناء القرية و أهلها، هل أحد يقول:
إن الله سبحانه و تعالى أراد بالقرية الجدران؟ لا يمكن.
فالكلام في سياقه معلوم المعنى، و لا يمكن أن يصرف عما يقتضيه السايق إطلاقا، و دلالة السياق على المعنى أقوى من دلالة اللفظ على المعنى، و الكلمة المفردة لا تفيد معنى إطلاقا، حتى نقول: التجوز في القرية. فتبين بهذا أن المثال لا يصح، و أنه يكون حقيقة في سياقه، انظر الآن القرية في قوله: (و اسأل القرية).
و قوله: (و كم من قرية أهلكناها) الأعراف/4.
المراد هنا بالقرية البناء، فصارت القرينة الآن مرة يراد بها أهلها، و مرة يراد بها المنازل و المساكن حَسَبَ السياق.
الفائدة 94
أما المثال الثاني يقول: و كازدياد الكاف.
في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) الشورى/11.
هل الكاف زائدة بمعنى أن وجودها كالعدم؟
الجواب: كلا!، فإنك لو حذفتها نقص توكيد الكلام،فليس فيها زيادة، و هي في مكانها لازمة، لأن المراد بها توكيد نفي المثل، فإذا جاءت الكاف الدالة على التشبيه مع "مثل" صار كأن "المثل" نفي مرتين، فنحن نقول: الزائد هو الذي وجوده كالعدم، و الكاف في: (ليس كمثله) ليس وجودها كالعدم أبدا، و لو كان وجودها كالعدم لكان في كلام الله ما هو لغو لا فائدة منه، فسبحان الله لو تصور الانسان هذا القول لكان قولا شديدا أن يكون في كلام الله شيء زائد، ما له معنى فنقول: الكاف ليس فيها زيادة، هي في موضعها أصلية حقيقية تفيد معنى أبلغ مما لو حذفت.
الفائدة 95
المثال الثالث: و الغائط المنقول عن محله.
سبحان الله، الغائط أصلها الموضع المطمئن، لكن صار حقيقة بالخارج من الدبر، و لا يمكن لأحد أن يفهم من قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط) ـ متفق عليه ـ يعني: لا تجعلوا المنخفض من الأرض أمامكم، فهو حقيقة، إن شئت فقل: شرعية، و إن شئت فقل: عرفية في الشيء الخارج من الدبر.
و لا يمكن لأحد تقول له: أين فلان؟ قال: ذهب إلى الغائط.
أنه ذهب إلى حفرة من حفر الأرض.
لا يمكن أن يفهم أحد هذا أبدا، و لا بد أن يفهم أنه ذهب ليقضى حاجته.
حتى كلمة: يقضي حاجته استعملت في البول و الغائط، و يُعَيّن ذلك السياق:
ـ فأحيانا يكون المراد يقضي حاجته: يأتي أهله.
ـ و أحيانا يكون المراد يقضي حاجته: يبول أو يتغوط.
ـ و أحيانا يكون المراد يقضي حاجته: يشتري طعاما من السوق، و يعين ذلك كله السياق.
¥