إن من القضايا المهمةِ حال النقاشِ العلمي البعدُ عن العواطفِ، ولا شك أن ما قام به الحجاجُ من سفكٍ للدماءِ، وهدمٍ للكعبة بالمنجينق، لا يخرجهُ عن دائرةِ الإسلامِ، ولو حصل ذلك لكفرهُ الصحابةُ رضي اللهُ عنهم، وقد نقل بعضُ الإخوة ممن عقبوا على المقالِ هنا بعضَ النقولِ تثبتُ تكفير بعضِ السلفِ للحجاجِ بنِ يوسف الثقفي.
فنقولُ لهم: هل تقبلون النقاش العلمي البعيد عن العاطفةِ والتشنج؟
إن قلتم: نعم، فإليكم الرد.
إن مما قرره أهلُ السنةِ والجماعةِ في بابِ التكفيرِ عدمَ تكفيرِ صاحبِ الكبيرةِ بحالٍ، وهذا الأمرُ أصلٌ من الأصولِ، ولستُ في مقامِ التفصيلِ لهذه المسألةِ لأنها أشهرُ من أن تقررَ.
نأتي على الظالمِ الجبارِ سفاكِ الدماءِ - عاملهُ اللهُ بما يستحق - وننظرُ في النصوصِ التي وردت في حقهِ من كلامِ السلفِ، فقد وردت نصوصٌ بلعنهِ، ونصوصٌ أخرى بتكفيرهِ وعدم تكفيرهِ، وننقلُ جميعَ النصوص الواردةِ للفريقين، ثم بعد ذلك يتبين الصوابُ في المسألةِ.
مسألةُ لعنِ الحَجَّاجِ بنِ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ:
نقلتُ في المقال السابقِ كلامَ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ في مسألةِ اللعنِ وأنقلهُ مرة أخرى لأهميته.
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: فَلِهَذَا كَانَ أَهْل الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ فِيمَنْ عُرِفَ بِالظُّلْمِ وَنَحْوِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ لَهُ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فِي الظَّاهِرِ - كَالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَأَمْثَالِهِ - أَنَّهُمْ لَا يَلْعَنُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ؛ بَلْ يَقُولُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " فَيَلْعَنُونَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَامًّا. كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا " وَلَا يَلْعَنُونَ الْمُعَيَّنَ.
كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: " أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُهُ. فَأُتِيَ بِهِ مَرَّةً. فَلَعَنَهُ رَجُلٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ. فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ مِنْ بَابِ الْوَعِيدِ وَالْوَعِيدُ الْعَامُّ لَا يُقْطَعُ بِهِ لِلشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ لِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ: مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.ا. هـ.
وممن امتنع عن لعنهِ الإمام أحمدُ رحمهُ اللهُ.
- روى الخلالُ في " السنة " (851) بإسنادهِ فقال: وأخبرني محمدُ بنُ علي قال: ثنا صالح أنه قال لأبيه: الرجلُ يُذكرُ عنده الحجاجُ أو غيرهُ فيلعنهُ؟ قال: لا يعجبني لو عبر فقال: ألا لعنةُ اللهِ على الظالمين، وروى عن ابنِ سيرين أنهُ قال: المسكينُ أبو محمد.
قال المحققُ لـ " السنة ": إسناده صحيحٌ. وقال عن المقصودِ بأبي محمد: لعله يقصدُ الحجاجَ فكنيته أبو محمد.
- وروى أيضاً (853) فقال: وأخبرني زكريا بنُ يحيى أن أبا طالب حدثهم قال: قال أبو عبد اللهِ: كان الحجاجُ بن يوسف رجلُ سوءٍ.
قال المحققُ: إسنادهُ صحيحٌ.
وكذلك الواجبُ على المسلمِ أن يجتنبَ اللعن، وأن لا يعود لسانه عليه.
ولاشك أن في الأمةِ من أمثالِ الحجاجِ كثر، بل أشد منه.
- روى الخلالُ في " السنة " (858) فقال: أخبرنا الدوري قال: ثنا شاذان قال: ثنا سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: يأتي على الناسِ زمانٌ يصلون فيه على الحجاجِ.
قال المحققُ: إسناده صحيحٌ، وهذا صحيحٌ على معنى: " لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده أشر منه " كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من حجاجٍ تولى على المسلمين من بعد الحجاجِ فكان شره مستطيراً وعمل أكثرَ مما عمل الحجاجُ.ا. هـ.
مسألةُ تكفيرِ الحَجَّاجِ بنِ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ:
¥