أما المسألةُ الثانيةُ في هذا المبحثِ مسألةُ تكفير الحجاجِ بنِ يوسف، وهي مسألةُ وردت فيها نصوصٌ عن السلفِ حكموا بكفرهِ، وفي المقابلِ جاءت أفعالُ الصحابةِ على النقيضِ من ذلك، فقد صلوا وراءهُ، وحجوا معهُ، وسأذكرُ النصوصَ الواردةَ لكلا الفريقين.
القولُ الأول: القائلون بعدمِ كفرهِ:
أدرك بعضُ الصحابةِ زمن إمارةَ الحجاجِ ومنهم ابنُ عمر، وأنسُ بنُ مالك، وعبدُ الله بن الزبير وكانوا يعرفون ما عند الرجلِ من ظلمٍ وجورٍ وسفكٍ للدماءِ ومع هذا لم يقولوا بكفرِ الحجاجِ، وهذه بعض النصوصِ في هذا المقام:
إمارةُ الحَجَّاجِ بنِ يُوْسُفَ الثَّقَفِيُّ للحُجَّاجِ وفيهم ابنُ عمر:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ؛ فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ؛ فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ، فَجَعَلَ يَعُودُهُ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلَاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ الْحَرَمَ وَلَمْ يَكُنْ السِّلَاحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ. رواهُ البخاري (966).
عَنْ إِسْحَاق بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَا عِنْدَهُ فَقَالَ: كَيْفَ هُوَ؟ فَقَالَ: صَالِحٌ فَقَالَ: مَنْ أَصَابَكَ قَالَ: أَصَابَنِي مَنْ أَمَرَ بِحَمْلِ السِّلَاحِ فِي يَوْمٍ لَا يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ. يَعْنِي الْحَجَّاجَ. رواه البخاري (967).
يتبينُ من هذين الحديثين أن ما فعلهُ الحجاجُ مع ابنِ عمر كان في الحجِ في منى، وسببُ هذا الفعلِ من الحجاجِ ما جاء في الحديثِ الآخر.
عَنْ سَالِمٍ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجُ، فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ، وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ؛ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: صَدَقَ. رواهُ البخاري.
قال الحافظُ ابنُ حجر في " الفتح " (2/ 528): فِيهِ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ يَتَسَبَّبُ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَإِنْ لَمْ يَعْنِ الْآمِرَ ذَلِكَ , لَكِنْ حَكَى الزُّبَيْرُ فِي الْأَنْسَابِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ اِبْنَ عُمَرَ شَقَّ عَلَيْهِ فَأَمَرَ رَجُلًا مَعَهُ حَرْبَةٌ يُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ مَسْمُومَةً فَلَصِقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِهِ فَأَمَرَّ الْحَرْبَةَ عَلَى قَدَمِهِ فَمَرِضَ مِنْهَا أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ , وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ.ا. هـ.
وفي فعلِ ابنِ عمر مع الحجاجِ فيما سبق أيضاً من الفوائد صلاةُ ابنِ عمر خلف الحجاجِ، وقد جاء مصرحاً به.
عن عمير بن هانىء قال: " شهدتُ ابنَ عمر والحجاجُ محاصرٌ ابنَ الزبير، فكان منزلُ ابنِ عمر بينهما فكان ربما حضر الصلاةَ مع هؤلاءِ، وربما حضر الصلاة مع هؤلاءِ.
قال العلامة الألباني في " الإرواء " (2/ 303): وهذا سند صحيح على شرطِ الستةِ.
أنسُ بنُ مالك يصبرُ الناس على أذى الحَجَّاجِ:
¥