وإذا أنكر أحد أخبار ردة العرب بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال إنها مصنوعة الحوادث، موضوعة الوقائع (10)، اختُلقت لغرض سياسي، وإنها من صنع مؤرخ الهيئة السياسية الحاكمة، سيف بن عمر، فإنه لا يمكن مناقشته في أمر الروايات التاريخية ونقدها! لأن من قال بهذا مدفوع بهوى عقدي يدعوك إلى أن تقر بردة حقيقية يراها هو وهي ردة أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، واغتصابهم الحق الشرعي والاستيلاء على كرسي الحكم، أما ردة الأعراب فهي من افتراءات سيف على حد زعمه.
وبمثل هذا المثال تبدو فرصة دراسة الروايات التاريخية غير متاحة لأن الحكم المسبق أو نزعة الهوى تقضى عليها تماماً. ومهما بلغ الناقد من قوة البحث والتمحيص فإنه سيدور في فلك البحوث التاريخية المحكوم عليها بالعقم. وحتى المنهج العلمي لا يشفع لمن يدعيه إذا اتخذه وسيلة للانتقاء والاختيار لتأكيد أحكام مسبقة. وفي دراسة في السيرة كان كيتاني ذا رأي وفكرة، استعان بكل خبر ضعيف لتأكيد حجته! قال الدكتور عماد الدين خليل إنه يذكرنا بكثير من المختصين الجدد في حقل التاريخ الإسلامي الذين يعملون وفق منهج خاطئ من أساسه؛ إذ هم يتبنون فكرة مسبقة ثم يجيئون إلى وقائع التاريخ فيستلون منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدون ما دون ذلك.
أخبار الجاهلية ومدرسة المدينة التاريخية:
وقد اعتمد التدوين التاريخي في بدايته على أخبار الجاهلية إضافة إلى الأحاديث التي رواها الصحابة والتابعون عن حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبدأ تأثر أخبار سيرته قبل الإسلام بما يروى عن أيام العرب، أما الأخبار الإسلامية عنه فتأثرت بنمط الحديث.
وفي مرحلة تالية تم ترتيب الأحاديث في أبواب فانفصل عنها ما يتعلق بالتاريخ تحت اسم المغازي والسيرة في أبواب ثم كتب، مع إفراد المحدثين، أو استمرارهم في إفراد، أبواب خاصة بها في مصنفاتهم، البخاري ومسلم وأحمد (11).
أما ملامح النشأة التاريخية المنتظمة فتبدو فيما يمكن أن يطلق عليه اسم المدرسة المدنية، وطبقتها الأولى أبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ) وعُروة بن الزبير (ت 92هـ) وشرحبيل بن سعد (123هـ) ووهب بن منبه (ت 110هـ). وهؤلاء الأربعة دعامة أولى في كتابة المغازي، وما كتبه أبان صحف عن أحاديث أفاد منها من أتى بعده.
كما نقل ابن هشام وابن سعد مما جمع عروة من أحاديث، وأخذ ابن إسحاق والواقدي ثم الطبري من أخباره التي ضمت المغازي وأخبار الردة في روايات قصيرة موجزة. ولشرحبيل أخبار عن أسماء من هاجر إلى المدينة ومن اشترك في غزوة أحد. وجمع وهب تصانيف عروة في المغازي.
ويتبع هؤلاء طبقة ثانية يمثلها عبد الله بن أبي بكر بن حزم (ت 135هـ) وعاصم بن عمرو بن قتادة (ت 120هـ) ومحمد بن شهاب الزُّهري (124هـ). وللأول تسجيل لبدء حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأخبار الوفود ووقائع الردة وأحاديث متصلة بالمغازي. وتميز الزهري بإيضاح ملامح مدرسة التاريخ بالمدينة معتمداً على روايات عروة، وبأن كتابته تطرقت لموضوعات تتصل بظهور الأحزاب السياسية والجدل بينها حول الفتنة والخلافة.
وتُختم مدرسة المدينة التاريخية بطبقة ثالثة فيها موسى بن عقبة ومعمر بن راشد ومحمد بن إسحاق؛ وهؤلاء الثلاثة تلاميذ للزُّهري. وعن محمد ابن إسحاق (ت 152هـ) نقل زياد البكائي (183هـ) أخبار السيرة، وعن زياد هذا نقل السيرة ابن هشام (182هـ) بعد أن نقحها واختصرها ودفع منها ما شك فيه من الأخبار ومنحول الشعر.
لم يتقيد ابن إسحاق بما تقيد به ثقات المحدثين في التدوين ونحى في تاريخه منحى وهب بن منبه في تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:
مبتدأ منذ بدء الخليفة، ومبعث يختص بحياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى السنة الأولى من الهجرة، ومغازي. وانفرد عن سابقيه بجمع الحوادث وترتيبها وتبويبها في مصنفه، وأخذ عليه أنه شحن تاريخه بشعر منحول انتقده عليه ابن سلام الجمحي، صاحب طبقات فحول الشعراء، وأن له أخطاء في الأنساب، إضافة إلى كثرة النقل عن أهل الكتاب، الذين يسميهم أهل العلم الأول، وأنه مالأ الخليفة المنصور في أخبار تتعلق بالعباس.
على أن كتابه يعد مع ذلك مادة أساسية لسيرة ابن هشام، وعنده وعند الواقدي من بعده بدأت مرحلة جديدة متميزة في التدوين التاريخي العربي.
¥