على لسان عثمان رضي الله عنه اتخذوه ذريعة ليستحلوا دمه و يحاصروه في داره إلى أن قتلوه رضي الله عنه.
و فوق هذا كله فالثائرون يفصحون عن هدفهم ويقولون: ضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا و نحن نعتزله. الطبري (4/ 351)، من طريق سيف بن عمر.
و علاوة على ذلك هناك ما يؤكد تزوير هذا الكتاب، إذ ليس هو الكتاب الوحيد الذي يزوّر على لسان الصحابة، فهذه عائشة رضي الله عنها، تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي
و تقول: لا والذي آمن به المؤمنون و كفر به الكافرون ما كتبت لهم سواداً في بياض حتى جلست مجلسي هذا. البداية والنهاية (7/ 195) و انظر ما رواه الطبري من استنكار كبار الصحابة أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات (4/ 355).
و ما تلك اليد الخفية التي كانت تخط وراء الستار لتوقع الفرقة بين المسلمين، و تضع في سبيل ذلك الكتب على لسان الصحابة و تدبر مكيدة الكتاب المرسل إلى عامل عثمان على مصر، و تستغل الأمور لتقع الفتنة بالفعل إلا يد ذلك اليهودي الخبيث و أتباعه، فهم المحركون للفتنة.
توقفنا في المرة السابقة عند رجوع الوفد المصري بعد أن زعم أنه قبض على رسول من عثمان إلى عامله في مصر يأمره بقتلهم، و عرفنا أن هذا الكتاب ليس هو الوحيد الذي زور على عثمان، و ظهرت حقيقة اليد التي زورت و خططت، واليوم إن شاء الله نكمل الموضوع الذي بدأناه.
هنا استشار عثمان كبار الصحابة في أمر التخلي عن الخلافة لتهدأ الفتنة، و كان المغيرة بن الأخنس قد أشار عليه بالخلع لئلا يقتله الخارجون عليه، و قد سأل عثمان ابن عمر عن رأي المغيرة فنصحه بأن لا يخلع نفسه و قال له: فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو أميرهم قتلوه. طبقات ابن سعد (3/ 66) بإسناد صحيح و رجاله رجال الشيخين، و تاريخ خليفة (ص170) بإسناد حسن.
و هناك بعض الروايات تفيد أن عثمان رضي الله عنه أرسل إلى الأمصار يطلب منهم العون بعد أن اشتد عليه التضييق و الحصار، و هذا الخبر لا يصح منه شيء، لأن منهج عثمان رضي الله عنه كان الصبر و الكف عن القتال امتثالاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له، و ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها كما عند ابن أبي عاصم في السنة (2/ 561) قالت: لما كان يوم الدار قيل لعثمان: ألا تقاتل؟ قال: قد عاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد سأصبر عليه، قالت عائشة: فكنا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه فيما يكون من أمره.
لهذا وضع مصلحة الرعية في المقام الأول، فعندما عرض عليه معاوية أن يبعث إليه بجيش يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياه قال رضي الله عنه: أنا لا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند يساكنهم، و أضيّق على أهل الهجرة و النصرة، فقال له معاوية: والله يا أمير المؤمنين لتغتالنّ أو لتغزينّ، فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل. الطبري (4/ 345). و حوصر عثمان بعدها في داره.
يقول ابن خلدون: إن الأمر في أوله خلافة، و وازع كل أحد فيها من نفسه هو الدين و كانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة، فهذا عثمان لما حصر في داره جاءه الحسن
و الحسين و عبد الله بن عمر و ابن جعفر و أمثالهم يريدون المدافعة عنه، فأبى و منع سلّ السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة، و حفظاً للألفة التي بها حفظ الكلمة و لو أدّى إلى هلاكه. مقدمة ابن خلدون (ص207 - 208).
و إلى جانب صبره و احتسابه و حفظاً لكيان الأمة من التمزق و الضياع وقف عثمان رضي الله عنه موقفاً آخر أشد صلابة، و هو عدم إجابته الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة؛ فلو أجابهم إلى ما يريدون لسنّ بذلك سنّة، و هي كلما كره قوم أميرهم خلعوه، و مما لاشك فيه أن هذا الصنيع من عثمان كان أعظم
و أقوى ما يستطيع أن يفعله، إذ لجأ إلى أهون الشرين و أخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة.
¥