السبب الثاني: البينة والعلم الذي كان يحمله، فكان على بينة من أمر دينه , تلقى كتاب الله وكان عالما إماما في القرآن، وتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل إنه يحفظ مئات الألوف من الأحاديث بأسانيدها، وعرف وعلم فلم يكن عنده في ذلك شك ولا تردد ولا ريبه ولذلك ما داخله في ذلك شيء فعلم أنه على الحق فصبر وصابر، وكان الله تعالى يسخر له بعد ذلك.
السبب الثالث: وهو الأمة التي كانت وراء الأمام أحمد. نعم , كانت وراءه أمة تؤيده وتساعده وتصبره, قال أبو جعفر الأنباري: لما حمل الأمام أحمد إلى المأمون وتجاوز الناس به النهر - نهر الفرات - عبرت إليه فإذا هو في الخان فسلمت عليه فرد عليّ السلام وقال لي: تعنيت - أي تعبت في سبيل المجيء إلي - قلت له:ليس هذا بعناء. قال:ثم قلت له - وانظر إلى نصيحة هذا الرجل الذي لا يملك شيئا إلا النصيحة يقولها لأحمد يثبته ويصبره بها -: يا هذا أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك فوالله لأن أجبتهم إلى ما يريدون وقلت بخلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق كثير من خلق الله تعالى , وإن أنت امتنعت عن هذا ليمتنعون بامتناعك، ومع هذا فإن الرجل - أي المأمون - إن لم يقتلك فإنك تموت غير بعيد ولا بد لك من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء , قال: فجعل الإمام أحمد يبكي ويكفكف دموعه ويقول: ما شاء الله ما شاء الله أعد علي هذا الكلام , قال: فأعدته عليه. فقال: ما شاء الله، ما شاء الله.
وأعجب من ذلك أن الإمام أحمد لما جيء به إلى الخليفة يمتحن جاءه رجل فهمس بأذنه بكلام - ما هذا الكلام؟ - قال أنا رسول إليك أرسلني إليك فلان الحداد - رجل محبوس - يقول لك يا أحمد اثبت ولا تجزع من الضرب فوالله أنا قد جُلِدت في معصية الله ألف حد - ولعله يقصد ألف جلدة في معصية الله - فما يضرك أنت أن تجلد في ذات الله؟! حتى السجناء وحتى العصاة يشعرون أن عليهم واجبا في تثبيت أهل الطاعة ودعمهم وتقوية هممهم وعزائمهم وتصبيرهم وإعانتهم بما يستطيعون.
الوقفة الخامسة: أن الإمام أحمد ثبت وكان وحده , وانجفل الناس عنه وأعرضوا فلا تجد حول بيته أحد ولا يقترب الناس منه ولا يُؤْذَنْ لهم فيأخذون عنه العلم والحديث , على حين كان بعض شيوخ البدعة حولهم الجاه والصولجان، وما هي إلا سنوات حتى انقلبت الآية فكان يجلس في مجلس الإمام أحمد كما ذكر الذهبي وغيره خمسة آلاف منهم خمسمائة يكتبون العلم والباقين يتعلمون من الإمام أحمد الأدب والهدي والسمت وأصبح لا يجرؤ عليه أحد.
ثم مات رحمه الله فصلى عليه خلق كثيرون حتى قيل إنهم حسب الإحصائيات المتوسطة مليون إنسان، فضلا عمن صلوا عليه في السفن وفي الأنهار , وفي غيرها خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى. ازدحمت الشوارع وامتلأت بغداد وغصت بمن فيها واجتمع خلق وقال بعض المؤرخين إنهم لم يجتمعوا في الإسلام قط كما اجتمعوا على جنازة الإمام أحمد .. لماذا؟ لأنه صبر وكان يقول لأهل البدع: "بيننا وبينكم الجنائز ". فأما أحمد فحضر جنازته ما يزيد على المليون وارتفع الصياح في البيوت والأسواق والمقابر والمساجد وغيرها، وما من مسلم إلا دخلت المصيبة عليه بموت الإمام أحمد؛ أما أهل البدعة ومنهم ابن أبى دؤاد خصم الإمام أحمد وعدوه اللدود والذي كان يقول للخليفة: يا إمام اقتله ودمه في عنقي، لأنه من علماء السلطان وكان ضالا مبتدعا منحرفا عن السنة , هذا الرجل لما مات بالفالج ما حضر جنازته إلا ثلاثة. وهناك كثيرون كبشر الحافي وغيره من أهل الزهد والورع والصلاح ومع ذلك لم يحضر جنازتهم أحد يذكر .. أما أحمد فكان هذا الخلق حضر جنازته.
أما في الدنيا قبل أن يموت فحدث ولا حرج فقد ضربت شهرته الآفاق وصار ذكره على كل لسان حتى صار هو يضيق بذلك ويقول: "اشتهرت، اشتهرت" , وكان يقول: طوبى لمن أخمد الله تعالى ذكره. ويرى عليه الحزن أحيانا من كثرة ذكر الناس له .. بل لعل من الطريف أن الحسين بن الحسن الرازي كان يقول: اشتريت من بقال بمصر - مع أن الأمام أحمد لم يدخل مصر - متاعا وتحدثت معه وذهبنا في الحديث وجئنا , قال: فسألني عن الإمام أحمد بن حنبل , قال: أتعرفه؟ قلت: نعم أعرفه وقد كتبت عنه حديثا. قال: فلما أتيت أعطيه ماله قال: والله لا آخذ منك شيئا , أنا آخذ ثمن متاع من إنسان
¥