تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أمر ثالث من زهده وعبادته إعراضه عن الدنيا والمال: قضى الإمام أحمد حياته كلها فقيرا , وكان يحب الفقر ويفرح به. ومع ذلك عرضت عليه أُعطيات كثيرة من التجار ومن سائر الناس , بعضها أموال، وبعضها من المزارع، وبعضها هدايا، وبعضها أعطيات. ومع أنهم يحاولون بكل وسيلة إلا أنه كان لا يقبل شيئا من ذلك قط مهما كانت به من الحاجة. قال:عبد الرزاق: أعطيته بعض الدنانير فردها الإمام أحمد، وقال: أنا بخير. وقال محمد بن سعيد الترمذي: قدم إلى بغداد صديق له من خرسان وكان قد اتخذ بضاعة يبيع ويشتري وقال: إن ربح هذه البضاعة للإمام أحمد. فذهب الرجل إلى الإمام أحمد،وقال له: أن رجل بخرسان يبيع ويشتري ويقول: إن ربح البضاعة لأحمد. فقال الإمام أحمد: جزاه الله تعالى عنا عن العناية والاهتمام خيرا، أما نحن ففي غنى وسعة , وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك. ربما أحرجه بعض الناس وأطال عليه فيقوم من المجلس ويدخل في بيته. دفع إليه السلطان أموالاً فردها، ودفعها فردها مرة أخرى , فقالوا له: إن رددتها تغير عليك قلب السلطان وظن أنك لا تأخذ منه شيئا وربما وقع في نفسه. فأخذ هذه الأموال وقال: هاتوا لي أسماء الفقراء وطلاب الحديث وطلاب العلم المحتاجين وجعلها كلها في قوائم فما أصبح في بيته درهم واحد منها ولا دينار , وكان يقول: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. ولما مات الإمام أحمد بعث ابن طاهر بصينيتين عليهما كفن و حنوط للإمام أحمد وقال:كفنوه في هذا وحنطوا بهذا. فقال صالح ولد الإمام أحمد: لا , إن الإمام أبا عبدالله قد أعدّ كفنه وأعدّ حنوطه قبل أن يموت، وإن أمير المؤمنين قد أعفى والدي من كل ما يكره وهذا مما يكره الإمام أحمد، وأبى أن يقبلها وردها إليه. كان الإمام أحمد يقول لولده صالح: إن والدتك - وكان يحبها كثيرا ويتذكرها وقد ماتت قبله - كانت تغزل غزلا دقيقا فتبيع الأستار بدرهمين أو أقل أو أكثر وكان ذلك قوتنا ومعاشنا، وكان يقول: أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيئ من الدنيا. ثم يقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام قلائل ثم نصير إلى الدار الآخرة.

ثم بلغ من ورع الإمام أحمد وزهده أنه نهى ولده عن أن يأخذ شيئا من أعطيات السلاطين، وكان صالح - فيما أذكر - قد وليَّ القضاءُ وأخذ بعض المال وبعض المرتبات، فكان الإمام أحمد - لا تحريما لهذا ولكن من باب الورع ولأنه يرى أنه دخل في الأموال شيئ - يتورع عن أخذها ويعتذر عن ذلك، ولما أخذ أولاده بعض ذلك عاتبهم فاعتذروا , وقالوا: احتجنا يا أبانا , فهجرهم شهرا لا يكلمهم. ولما مرض وصفوا له بعض القرع الذي يشوي ويؤخذ ماؤه فلما جاءوا بهذا القرعة قال بعض الحضور: اجعلوها في تنور صالح. لأن تنور صالح قد أوقد وحمى فاجعلوها في هذا التنور. فكان الإمام أحمد يقول بيده هكذا (لا، لا)، لا تجعلوها في تنور صالح لأنه يأخذ من السلطان. وكان لعمه غلام يجلس عند الإمام أحمد فربما حرك عليه المروحة يروح عنه أحيانا فبغض الإمام أحمد ذلك لأنه يخشى أن يكون عمه اشترى هذا العبد من أعطيات السلطان.

هذا جانب من ورعه، جانب من زهده، إنه لا يحرم الحلال أبدا ولا يضيق على الناس أبدا. والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) , أي ما كان من سبل الحلال ولكنه كان في خاصة نفسه وفي من يعول من ولده يتخذ مسلك الورع والتقوى والاحتياط والتعفف والبعد حتى عن أقل القليل من ذلك.

أخلاقه ومناقبه: وإنها عجب من العجب! أُوذِي الإمام أحمد وضُرِب وقضى حياته كلها مترددا بين السجون فماذا كان موقفه؟ سامح من آذوه وضربوه , وقال: "ما علينا ألا يعذب الله تعالى أحد بسببنا" , إلا من أصروا على الضلال والبدعة فإنه لم يصالحه. وقد تلقى عنه هذا الهدي والسمت تلاميذه ومحبوه وأتباعه , فكان الإمام ابن تيمية مثلا وقد ضُرِب أيضا وأُوذى واعتُدِي عليه وسُجِن , وكان إذا أصرَّ عليه طلابه يقول لهم: الحق إن كان لي فقد عفوت عنهم، وإن كان لله فالله تعالى يتولاهم، أما أنتم فليس لكم بذلك شأن.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير