ثم دلَّل المؤلف على ما ذهب إليه كثرة ما يجري على ألسنة الناس بالخير والشر والمدح والذم والاشتقاقات للأسماء فمن ذلك أكلب بن ربيعة، ومكلب بن ربيعة بن نزار، وكلاب بن ربيعة، وكليب بن يربوع ومثل هذا كثير، وقال: إن للكلب أيضاً من الفضائل إثباته وجه صاحبه ونظره إليه في عينه وفي وجهه وحبه له ودنوه منه حتى ربما لاعبه ولاعب صبيانه بالعض الذي لا يؤلم ولا يؤثر وله تلك الأنياب لو أنشبها في الشجر لأثرت، وأورد شعراً:
أيها الشانئ الكلاب أصخ لي == منك سمعاً ولا تكونن حبسا
إن في الكلب فاعلمن خصالاً == من شريف الفعال يعددن خمساً
حفظ من كان محسناً ووفاء == للذي يتخذه حرباً وحرساً
واتباع لرحله وإذا ما == صار نطق الشجاع للخوف همساً
وهو عون لنابح من بعيد == مستجير بقربه حين أمسى
والمؤلف وهو يسرد قصصاً لوفاء الكلاب لأصحابها يقارن بينها وبين بعض الأصدقاء غير الوفيين، ومن القصص الغريبة ذكر المؤلف: قال أبو عبيدة إن رجلاً من أهل البصرة خرج إلى الجبانة ينتظر ركابه فاتبعه كلب له فطرده وضربه وكره أن يتبعه ورماه بحجر فأدماه فأبى الكلب إلا أن يتبعه فلما صار إلى الموضع وثب به قوم كانت لهم عنده طائلة وكان معه جار له وأخ فهربا عنه وتركاه وأسلماه، فجرح جراحات كثيرة ورمي به في بئر وحثي عليه من التراب حتى واراه ولم يشكّوا في أنه قد مات، والكلب مع هذا يهر عليهم وهم يرجمونه، فلما انصرفوا أتى الكلب إلى رأس البئر فلم يزل يعوي ويبحث في التراب بمخالبه حتى ظهر رأس صاحبه وفيه بقية نفس يتردد، فبينما هو كذلك إذ مر أناس فأنكروا مكان الكلب ورأوه كأنه يحفر قبراً، فجاؤوا فإذا هم بالرجل على تلك الحال فاستخرجوه حياً وحملوه إلى أهله، وزعم أبو عبيدة أن ذلك الموضع يدعى بئر الكلب) وهذا الأمر يدل على وفاء طبيعي وإلف غريزي ومحاماة شديدة وعلى معرفة وصبر وكرم وغناء عجيب ومنفعة تفوق المنافع.
ومما قال: وممن أفسد الصديق حرمته وقام الكلب لنصرته ما أخبرونا عن أبي الحسن المدائني قال: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم شديد الحبة لهم فعبث أحدهم بزوجته فراسلها، وكان للحارث كلب قد رباه، فخرج الحارث في بعض متنزهاته ومعه ندماؤه، وتخلف عنه ذلك الرجل، فلما بعد الحارث عن منزله جاء نديمه إلى زوجته فأقام عندها يأكل ويشرب فلما سكرا وأضجعها، ورأى الكلب أنه قد صار على بطنها وثب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله ونظر إليهما عرف القصة وأوقف ندماءه على ذلك ثم أنشأ يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني == ويحفظ عرسي والخليل يخون
فيا عجباً للخل يهتك حرمتي == ويا عجباً للكلب كيف يصون
وذكر المؤلف قصصاً كثيرة لوفاء الكلاب لأصحابها وتفوقها على بعض الأصدقاء الذين يلبسون الثياب ويخونون، وهكذا ختم كتابه بهذه القصص الغريبة.
أقول: لا زال كثير من كبار السن يذكرون لنا قصصاً في وفاء كلاب الصيد والماشية والمزارع، وإن مما أدمع عيني واعتصر قلبي عاطفة وحزناً ما ذكره أحد الإخوة من دولة العراق الشقيقة رفع الله خوفهم وبدلهم أمناً، هو أن أحد أبناء القبائل الكريمة والموجودين في قرية من قرى (ديالي) كان قد ربى كلباً سماه (سداح) فلما أتى جنود الاحتلال لتفتيش منزل هذا الرجل في غياب منه بدأ الكلب ينبحهم ويعض أرجلهم ولم يتمكنوا من دخول المنزل حتى قتلوا الكلب، فلما علم بذلك صاحب البيت قال قصيدة، يثني بها على فعل الكلب الوفي ويمقت بها العملاء الذين باعوا أنفسهم للاحتلال منها:
سداح يومنه حما الدار ملزوم == غيرة ولا يرضى يدوسون بابه
ليما ذبحه في بندق حط به زوم == الكافر المحتل مكَّن صوابه
والله لو أنه بشر قلت مرحوم == وبعض البشر فدوة لحضرة جنابه
والآن بعد عرض الموجز لكتاب ابن مرزبان، والقصة الحالية لهذا الكلب في العراق، ألا يرى القارئ الكريم أن الكلب أوفى بكثير من بعض من الأشخاص ألجأتهم هذه الدولة الكريمة السعودية، وأبدلت خوفهم أمناً، وفقرهم غنى ونبتت لحومهم على عظامهم بعد أن كانت الطيور تمزق أجسامهم، وبعد أن قوي عودهم بعد ضعف، وفصح لسانهم بعد ركاكة، أصبحوا يدسون السم في العسل ويخرجون في القنوات المعادية لسب هذه الدولة وشعبها ورميها بالتخلف لا شك في نظري، إن الكلب أوفى منهم بكثير، وفي الختام أيها الإخوة بعدما تقدم من أسطر، فلا زلت متفائلاً ومخالفاً لابن مرزبان في عنوان كتابه ولو كنت في عصره لقلت له إن الأفضل لعنوان كتابك أن يكون (فضل الكلاب على بعض ممن لبس الثياب) كما أنني قبل كتابي لهذا العرض وبعده أحفظ قول الله عز وجل في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} «(70) سورة الإسراء».
وقوله في سورة الأعراف: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (176) سورة الأعراف، وقوله سبحانه في سورة الكهف {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (18) سورة الكهف.
وللقارئ الكريم تحيتي.
عبد الله بن علي بن محمد العسكر
المصدر ( http://www.al-jazirah.com/498536/wo2d.htm)
¥