وضاعت الأمة الإسلامية المرتقبة، والحضارة الإسلامية المأمولة، على مفترق الطرق، واحتارت في زحمة الاتجاهات المتطرفة. وأصبح الإسلام كلمة مطاطة كأنها ضباب السواحل تشمل جميع المتناقضات، وليس أبداً ذلك الدين الواحد الذي جاء به رسول واحد من رب واحد، لتكوين أمة واحدة، بل صار ألف دين وألف مذهب وألف أمة وألف ملة ... وكانت هذه عقبة تعترض مسيرة المسلمين الحضارية وكان لا بد لنا من تحديها بأمرين:
1 - تجريد الإسلام من الفلسفات الجاهلية التي نسبها المنحرفون إلى الدين حتى يعود الدين كما أنزله الله -سبحانه- على رسول الله – صلى الله عليه وسلّم- عقيدة صافية وفكرة رائعة تحمل نفسها على كتف الحياة، وتنسجم وتتفاعل معها، ولا يمكن ذلك دون العودة إلى ذات النصوص الشرعية، ومحاولة التسليم لها، والتفتح عليها، دون التأويل لها، والتحريف لكلماته.
إن الإسلام بنى الحياة المادية على أفضل ما تكون، وفتح أبواب الأمل؛ ليصل الإنسان إلى كماله المهيأ له، ولكن ليس على حساب الآخرين كما يفعل الغرب المادي، ومع الجانب المادي يسعى الإسلام إلى بناء الكيان الروحي والعقلي والأخلاقي في الإنسان؛ لأن المادة جزء من حياة الإنسان، وأما الجزء الآخر؛ فهو الروح، والعقل، والأخلاق.
قال - تعالى-: {ربنا آتنا في الدُّنيا حَسَنةً وفي الآخرة حَسَنة وقنا عذاب النار} [البقرة:201].
قال – صلى الله عليه وسلّم-: «إنما بعثت؛ لأتمم مكارم الأخلاق». ويروى عن عيسى -عليه السلام- قوله: ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان.
فالأخلاق والعلم جناحان يحلق بهما الإنسان في سماوات الإجادة والإفادة.
2 - تجريد الحضارة الحديثة مما شابهها من سلبيات الإنسان الأوروبي، ونظراته الضيقة المحدودة، وذلك بدراستها في ضوء وهدى القرآن والسنة، ومنهج خير القرون، دون تقليد منا لها أو انغلاق عنها، لأن الانعزال والتقوقع على التراث في عالم اليوم - الذي تحول إلى (غرفة) صغيرة بحكم التطور التقني الهائل، في تكنولوجيا الاتصال- أمر مستحيل كما أن الانسياق وراء الدعوة إلى حضارة عالمية واحدة – بحد ذاته- انتصار للمدنية الغربية الكاسحة، وهو طريق التبعية الحضارية التي تفقد المسلمين خصوصيتهم الحضارية، ويحولهم إلى مجرد هامش لمدينة الغرب.
إن المشروع الحضاري الإسلامي فعل حضاري مركب لا يجتر ماضياً فارغاً، ولا يحاكي راهناً واهِناً، فعل يبدع ذاته من أصل ذاته (الأصيل)؛ الذي هو الأصل الذي أبدع نماذجه في التاريخ الماضي، القادر على أن يبدع نماذج جديدة في الحاضر والمستقبل.
وعلينا بعد ذلك الاعتماد على أصالتنا الرسالية وأن نتخذ من سيرة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلّم- قوة مناعية في بناء حضارة قوية وسليمة.
نريد جيلاً يحاول التعرف إلى تاريخه وماضيه، وينفتح على تراثه الإسلامي الصافي الأصلي، ويستلهم منه مشعلاً لطريقه ورؤيته للمستقبل.
لقد حمل المسلمون الأوائل قيم الإسلام العليا ومُثُلَهُ السامية، وأخذوا في نشرها وتعميقها في كل أرجاء الدنيا، وبدأت عملية التفاعل بينها وبين الحضارات السابقة.
ومع مرور الزمن وانصرام القرون نتجت حضارة إسلامية كونية، أسهم في تكوينها المكونات الصالحة من الحضارات السابقة، فاغتنت الحضارة الإسلامية بكل ذلك عن طريق التفاعل، وكانت هي بدورها فيما بعد عندما استيقط الغرب من سباته وأخذ يستعد مكوناً حضارياً ذا بال، أَمَدَّ المدنية الغربية بما تزخر به اليوم من علوم وعطاء مادي متنوع، ولذلك كله؛ فإنه وفي عصر التحدي الحضاري ودوامة التحامل على الإسلام الذي صوب سهامه ضد ثوابت الأمة وقيمها وبلادها، تتعاظم الحاجة إلى مشروع إسلامي حضاري، تقويماً للمسيرة وتصحيحاً للرؤى، وتنسيقاً للجهود والمواقف، وإعلاء لمنظومة المُثُل والقيم، وإشاعة للود والتسامح والتراحم، وبثاً لروح التعاون والتصافي والتفاهم، وبالتالي ارتقاءاً بالإنسانية وإسعاداً للبشرية.
¥