قال بشار: قال لي يوسف بن أسباط: تعلموا صحة العمل من سقمه , فإني تعلمته في اثنين وعشرين سنة. (8)
وقال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة , وقف حيث وقف القوم , وقل بما قالوا , وكفَّ عما كفوا عنه , واسلك سبيل سلفك الصالح , فإنه يسعك ما وسعهم ولا يستقيم الإيمان إلا بالقول؛ ولا يستقيم القول إلا بالعمل , ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية موافقة للسنة , وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل , وإنما العمل من الإيمان , والإيمان من العمل , وإنما الإيمان اسم جامع كما يجمع هذه الأديان اسمها , ويصدقه العمل , فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله , فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها , ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه , وكان في الآخرة من الخاسرين. (9)
وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار لما رأى من إيثارهم فبين لهم الطريق حتى يكون واضحا بلا لبس أو غموض.
فعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , قَالَ: أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطِعَ مِنْ الْبَحْرَيْنِ , فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: حَتَّى تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَ الَّذِي تُقْطِعُ لَنَا , قَالَ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي. (10)
تأمل معي هذا الحديث! لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم محبة الأنصار لإخوانهم من المهاجرين , وتعلقهم بهم , حتى أنهم لا يأخذون شيئا إلا وطلبوا مثله لإخوانهم من المهاجرين , فخاف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرموا بعض الحق فيصرفهم عن الطريق , فحدد لهم المنهج الذي يعاملون به الناس في أمر الإيثار , حتى يلقوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة , وهم على الطريق.
وضوح المنهج سبب في الثبات على الطريق:
فَمِنْ نعم الله أن الطائفة الباقية على الحق ثابتة هي أهل السنة والجماعة , فإن الفرق تظهر , وتخبوا تنتشر , و تتقلص , وتذوب , وتنقطع , أما أهل السنة فإنهم على الطريق خلف نبيهم سائرون , قد وضح لهم الطريق وبانت أعلامه , فإذا وضح الطريق كان القذف في النار أحب إلى العبد من الكفر.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا , وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ , وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ. (11)
قال البيهقي رحمه الله (12).:
فأبان بهذا الخبر أن الشح بالدين من الإيمان لأن ذكر الحلاوة مثل الإيمان , وأراد أن الشحيحَ بدينهِ كالمتطعم بالشيء الحلو , فكما أن الراغب في الإيمانِ لا يسلم له مقصوده منه إلا وأن يكون شحيحا به , فإنه إذا شح بالإيمان لم يأت بما يفسده عليه , كما أن من وجد حلاوة الحلو لم يأت بما يبطلها عليه - والله أعلم -.
وتأمل حال الأنبياء , وهم يتعرضون لفتن تتزلزل لها الجبال , ولكنهم تخطوا جميع الصعاب , وجازوا كل المفاوز حتى عبروا الطريق.
فهذا نوح عليه السلام , يلقى من قومه الصدود والإعراض , وهو لا يعبأ بخلافهم له بل يمضي إلى ربه بلا التفات.
قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)} [سورة هود: 38 - 39]
وهذا هود عليه السلام , يحرم الرفيق , ويسير في دربه وحيداً , والقوم يصارعونه , وهو صامد لا يلين ولا يعبأ بتهديدهم , بل يتحداهم بجمعهم وقوتهم إن يلحقوا به أذى فعجزوا.
¥