قال تعالى: {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} [سورة الأعراف: 88 - 89]
قال البيهقي (13):
فإن في هذا الباب عدة معان مرجعها كلها إلى الشح بالدين , أحدها: أن شعيباً عليه السلام سمى مهانته المستكبرين من قومه نجاة , وقد علم أن ضد النجاة الهلكة , ومن كان عنده أن الكفر هلكة و الإيمان نجاة لم يكن إلا شحيحا على دينه.
والثاني: أنه أشار بقوله على الله توكلنا؛ إلا أنه قد فوض أمره إلى الله تعالى , فإن عصمه من الجلاءِ عنْ الوطنِ فذلك فضله , و إن جلاءهم و ما يهمون به من إخراجهم بالجلاءِ , أحب إليه من مفارقة الدين , وهذا من الشح بالدين لأن الله تعالى جعل الجلاء عن الوطن بمرتبة القتل , و الثالث: أن شعيبا عليه السلام فرغ إلى الله , و استنصره , و دعاه كما يدعو في الشدائد إذا عرضت له , و الخطوب إذا نزلت , فقال: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق , استعظاماً منه لما كان يخاطب به , وتأملا أن يدافع الله عنه أذية الكفار , فلا يسمعوه في دينه ما يشق عليه سماعه , وهذا أيضاً من الشحِ بالدين , و معلوم أن الله تعالى يقيض علينا هذا ومثله لتتأدب بآداب الذين يصف لنا سيرهم ثم يمنعها , و بيان مذاهب الذين يصف لنا طرائقهم ثم يدعها و يتبع الأحسن من الوجهين دون الأقبح منها , لذا قال عز وجل: فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ الآية , فصح أن الشح بالدين من أركانِ الدين , لا يجد حلاوة الدين من لا يجد الشح به في قلبهِ. . والله أعلم.
وهذا هو الأمر الذي يشهد العقل بصحته , لأن من اعتقد ديناً ثم لم يكن في نهايةِ الشح به و الإشفاق عليه , كان ذلك دلالة على أنه لا يعرف قدره و لا يبن موضع الحظ لنفسهِ فيه ومن كان الحقَ عندهُ حقيراً لم يسكنْ الحق قلبهِ وبالله العصمة.
ثم إن الشح بالدين ينقسم قسمين أحدهما: الشح بأصله كيلا يذهب , و الآخر: الشح بكماله كيلا ينقص , ألا ترى أن الله تعالى كما مدح شعيباً عليه السلام وأثنى عليه بأنه شح على دينهِ فلم يفارقهُ مع استكراهِ قومهٌ إياه على مفارقته , وكذلك قد مدح يوسُف عليه السلام بأن استعصمَ حين راودتهُ امرأة العزيز عنْ نفسهِ , وقال: ربِ السجنُ أَحبُ إلي مما يدعونني إليه , فَبَان أن الشحَ على شعبِ الإيمان كيلا ينقص كالشح على أصله كيلا يذهب , وهذا سبيل كل مفتون به , لأن الشحيحَ بماله كما شح بجماعته فشح بابعاضه الشحيح بنفسه يشح بأطرافه , كما يشح بحملهِ مدة و هكذا الدين. . وبالله التوفيق.
ومن الشحِ على الدينِ أن المؤمنَ إذا كان بين قوم لا يستطيع أن يوفي الدين حقوقه بين ظهرانيهم ويخشى أن يفتنوه عن دينه وكان إذا قاربهم يجد لنفسه مأمنا يتبوأه , و يكون فيه أحسن حالا منه بين هؤلاء , لم يقم بين ظهرانيهم وهاجر إلى حيث يعلم أنه خير له و أوفق , قال الله تعالى: ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله و رسولهُ ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله , وعلى هذا الوجه كانت هجرة أصحاب رسول الله ? , من ديار الكفار , وليلقوه , و يصحبوه , و يهاجروا معه , ثم هذا الحكم فيمن لم يمكنه اظهار دينهِ في موضعهِ باق بعده , و قد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب السير من كتابِ السنن وروينا في كتابِ دلائل النبوة ما قاسى أصحاب رسول الله ? من الشدائد والمكاره لمحاورة الكفار حتى أمروا بالهجرة إلى أرض الحبشة ثم إلى المدينة و الله تعالى يوفقنا لمتابعة سلفنا , فنعم السلف كانوا لنا رضي الله عنهم. أهـ
¥