[استفتاء لغوي]
ـ[محمد سعد]ــــــــ[01 - 05 - 2008, 06:57 م]ـ
للاستاذ الكبير الشيخ عبد القادر المغربي
عضو المجمع اللغوي المصري
سألني بعض الاخوان: هل ورد في كلام العرب استعمال هذا التعبير الشائع على ألسنة كتاب الصحف اليوم، وهو قولهم في مقام التمجد والافتخار مثلاً: (تصريح مندوبنا في هيئة الأمم يرفع رأس بلادنا عاليا)، وأحيانا يقتصرون على قولهم (يرفع الرأس) من دون لفظ عاليا وهو الأعمم الأغلب في اللهجة الشعبية، فقلت لسائلي: بل وفي اللهجة الأدبية أيضاً، ألم يقل المرحوم حافظ ابراهيم من قصيده بعنوان: (مصر تتحدث عن نفسها):
أنا ان قدر الاله مماتي =لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي
قال السائل: وزعم بعضهم أن هذا التعبير مترجم بالحرف عن الفرنسية اذ يقولون: Onpenut Lever Latete وتارة يقولون: Lever Latete haute أو: bien haute. فأجبت: ان هذا التعبير أو هذا الاسلوب معرب وينبغي أن يضاف الى الشواهد الكثيرة التي أحصيتها في مقالي (تعريب الاساليب) الذي نشر في الجزء الاول من مجلة مجمعنا المصري، ان كنت لم أذكره فيه. ومع هذا لا أرى لزوما لهجر هذا التعبير والتشاؤم به مادامت ألفاظه عربية وسبك جملته عربياً كسائر الأساليب المعربة التي روجها حسنها على ألسنة الكتاب وأسنة أقلامهم، وتنكر قوم منا للمعرب والدخيل ينبغي ان يحمل على تعريب الألفاظ الأعجمية لا الأساليب الأعجمية كأسلوب رفع الرأس عاليا، وليس الشأن في هذا وانما الشأن في هل أثر عن فصحاء العرب استعمال (رفع الرأس) في مقام التمجد
والتعزز؟ وان لم يؤثر فما هو التعبير أو ما هي التعابير التي يمكن أن نستعملها ونعول عليها مكان هذا التعبير الفرنسي البغيض الذي ملته أسماعنا، وسئمت منه نفوسنا؟؟ والحق أن حافظ ابراهيم لما قال: (لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي) لم يكن السأم من هذا التعبير بلغ حد الكثرة، وما يدرينا أن شاعر مصر هو أول من استعمله وتتابع الناس على أثره، ثم غلوا وأفرطوا.
لا توجد أمة كالأمة العربية أكثرت من التفنن في التعبير عن ابائها وعزة نفسها قال بعض حكماء العرب: (أحب الرجل اذا سيم خطة خسف أن يقول لا: بملء فيه) أما ما يفيد معنى رفع رأسهم عالياً أو ما يفيد لهجهم بمناقبهم ومحامدهم افتخاراً، فأشهر ما يدل عليه قول شاعرهم يعير بني تغلب بغلوهم في الفخار. الهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدا مذ كان أولهم =يا للرجال لشعر غير مسؤوم
ولو أراد أحد كتابنا اليوم أن ينقل معنى هذا الشعر الى الاسلوب الدارج، لقال: ما زال بني تغلب يرفعون رأسهم عالياً كلما أنشدت أو ذكرت معلقة شاعرهم حتى أضجرونا.
ومن عادة العرب اذا أرادوا الدلالة على الاباء والترفع عن المخازى باشارة أو حركة من أعضائهم لا يدلون على ذلك برؤوسهم أو رفعها كما يفعل الافرنج وانما يدلون عليها بمواضع أخرى من أعضاء رؤوسهم: كالأنف والعنق والجفن، قال الزمخشري في الأساس في مادة: (لمظ) ما يستدل منه على أن العرب كانوا يقولون في مقام الافتخار والتمجد. فلان يرفع حاجبيه فخاراً، فقد قال شاعرهم في ممدوحه:
لقد كان متلافا وصاحب نجدة =ومرتفعاً عن جفن عينيه حاجبه
قال الزمخشري: (أي أنه لم يأت بخزية يغض لها بصره).
واعتادوا أن يخصوا الأنف وارتفاع نصبته بالدلالة على العزة واباء الضيم، ويجعلونه آيه على ذلك، ويسمون هذا الارتفاع الشمم
(شم الانوف من الطراز الاول)
ونقلوا لفظ الشمم الى معنى الكبرياء والتعزز، واشتقوا من اسم الانف فعلا فقالوا (أنفة) للدلالة على العزة، والترفع عن الدنايا، وبمعنى شمم الأنف شموخ الأنف: أي ارتفاعه، قال ابراهيم الموصلي:
اذا مضر الحمراء كانت أرومتي =وقام بنصري خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت =يداي الثريا قاعداً غير قائم
وكارتفاع الأنف وشموخه في هذا المقام ارتفاع العنق أو انتصابه، وقد جمع بينهما أحد شعراء الحماسة، وهو جزء بن كليب الفقعسي مذ تجرأ ابن كوز على خطبة احدى كرائم عشيرته فقال:
تبغى ابن كوز والسفاهة كاسمها=ليستاء منا أن شتونا لياليا
الى ان قال:
وان التي حدثتها في أنوقتا =وأعناقا من ذا الاباء كما هيا
وفي الاعناق قال أبو العاهيه في سلم الخاسر:
تعالى الله يا سلم بن عمرو =أذل الحرص أعناق الرجال
ومما له علاقة بهذا البحث قولهم أي قول المعاصرين: خرج فلان من التهمة التي أقيمت عليه الدعوى بسببها (مرتفع الجبهة) أو (ناصع الجبين) ومعنى ناصع الجبين خالص بياض الجبين، كناية عن برائته مما عزى اليه من سوء أو خزاية، ولا أذكر أن لهذين التعبيرين أثراً في كلام فصحاء العرب، فهما مما يضاف الى تعبير (رفع الرأس عاليا) ويكون الكل من الدخيل بالترجمة عن الأعجمية، ومما ترجم عن الفرنسية واستعمله الكتاب المعاصرون في النثر مما كان من أعضاء الجسد قولهم: (هز كتفيه) استنكارا (ومط شفتيه) و (صلب ذراعيه على صدره) حيرة أو تعجباً أو استغرابا، أما (الخد) من أعضاء الرأس فارتفاعه أو ميله الى فوق يسمى: صعرا وتصعيرا، ولا يستعمل في مقام العزة والأنفة المحمودة، وانما يستعمل في مقام الكبرياء الممقوته، ومنه قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) ويقول العرب في التهديد: (لأقيمن صعرك).
ومحصل القول أن الأنوف والأعناق ثم الجفون هي التي جعلها العرب مقراً للعزة والنخوة، ودلوا بالاشارة بها على الفخار والتمجد.
فهل يمكن أن يستعاض بها عن (رفع الرأس عاليا) الذي كثر حتى قبح وشاع حتى ملته الأسماع، فنقول مثلا: قد شمخنا بأنوفنا، ورفعنا من جفوننا، ونصصنا أعناقنا، أو نبقى على ذلك التعبير يسرح ويمرح في لغة صحافتنا استكثاراً للثروة الكلامية وتطرية للأساليب القديمة بالأساليب الحديثة؟
ما رأيكم أيها الفضلاء
¥