[وادي الربيع (قصة قصيرة)]
ـ[محفوظ خليف]ــــــــ[26 - 09 - 2007, 12:30 ص]ـ
... و"زهرة" تلميذة في الصف الأول، تلثغ بحروف الهجاء، تخط اسمها بالطباشير على باب العمارة. تحفظ الأناشيد وقصار السور، تنط هنا وهناك كالفراشة تارة، وتارة تشرد، تحلم بدراجة ودمية تتكلم، ولعب مثيرة: مصباح علاء الدين والكرة السحرية تتدحرج تقودها الى الجزيرة، حيث قصور الذهب والمرجان المنسية، وحيث تتربع هي على العرش أميرة، وفي المساء يجيء الأمير يأخذ الصبية الفقيرة ...
وكان يا مكان أن جاء زمان روعت فيه الصغيرة،وبدلت بأحلامها كوابيس قمطريرة، اذ تهب من نومها مذعورة تتلمس في الظلمة رأس أبيها ان لم يكن قد أطير.
"زهرة" الوديعة انطوت على خوفها ولم تعد تضحك غريرة، تحدث نفسها في خلوتها بأشياء مريعة: لمن الدماء في الشوارع؟ لمن الرصاص في الظلام؟ لمن الحريق في المدارس؟ و المعلمة قالت: العلم نور وشموع، هيا يا أطفال شمعة شمعة ننر الطريق ...
و اه يا معلمة ما عاد الطريق اليك امنا، دون المدرسة حواجز و أهوال، و جسر وادي الربيع. يا وادي الربيع المطرز بحكايات الجدة زينب ... كان يا ابنتي نهرا مباركا يصفو ماؤه يتدفق ثرا مع مطلع كل ربيع عندما تكف السماء و تذوب ثلوج سيدي الكبير، و يتفتح نوار اللوز، و تصدح أطيار الصفصاف، نخرج اليه كل جمعة في موكب رائع عجائز و أبكارا، نرقص و نغني ونغسل الصوف على صفاحه، وتغتسل في مياهه العرائس و العوانس و العواقر، و سيدي الكبير راض يبسط بركته على الجميع، فيتزوجن و يلدن بنات و بنين. ثم دارت السنين، و لوثوا مجرى النهر، و لم يرعوا لسيدي الكبير حرمة، فحل غضبه، و جف الوادي، و ما عاد فيه غير صفاحه يشكو الضمأ.
و اذ تعبر "زهرة" الجسر كل صباح تعبر حكاية الجدة الى ذراعي معلمتها شوقا و حنينا.
و ذات صباح و قد هل الثامن من مارس بتباشير العيد، نسقت "زهرة" باقة ورد لمعلمتها، ومضت توقع على الرصيف بحذائها الجديد.
مرت على عسكر الحاجز، داعبوها و أخذوا منها وردة، توسلت اليهم بعينيها العميقتين:
-امنحونا السلام، امنحونا الطفولة.
و مضت تعبر الجسر وقد لاحت معلمتها في الجهة الاخرى. وبين الخطوة والخطوة واهتزاز الضفيرة انفجر الجسر اذ بيت على قنبلة موقوتة. تطايرت زهرة، تناثرت ورداتها، دفاترها،أشلاؤها ثم تساقطت رمادا في قرار الوادي السحيق.
ارتسمت هوة كبيرة،وجرت دماء زهرة في الوادي الناشف. احتشدت الجموع حول المشهد المريع.
بكى الأطفال وفاض وادي الربيع ...