ثانيهما ـ أن يكون ذلك في حادثة واحدة بعينها لا في مثلها، كما لو صلى ظهراً بمسح ربع الرأس مقلداً للحنفي، فليس له إبطال طهارته باعتقاده لزوم مسح الكل مقلداً للمالكي. وأما لوصلى يوماً على مذهب، وأراد أن يصلي يوماً آخر فلا يمنع منه.
مثال الثاني أي الرجوع عن أمر مجمع عليه: لو قلد رجل أبا حنيفة في عقد النكاح بلا ولي، فيستلزم العقد صحة إيقاع الطلاق، لأنها أمر لازم لصحة النكاح إجماعا , فلو طلقها ثلاثا , ثم أراد تقليد الشافعي في عدم وقوع الطلاق لكون النكاح بلا ولي، فليس له ذلك لكونه رجوعاً عن التقليد في أمر لازم إجماعاً. وهذا أمر معقول حتى لا تصبح العلاقة الزوجية السابقة علاقة محرمة، وأن الأولاد أولاد زنا. فيمنع ذلك كما يمنع كل ما يؤدي إلى العبث بالدين أو الإضرار بالبشر أو الفساد في الأرض.
ومن صور التلفيق الممنوع لمخالفته الإجماع: أن يتزوج رجل امرأة بغير صداق ولا ولي ولا شهود، مقلداً كل مذهب فيما لا يقول به الآخر، فهذا من التلفيق المؤدي إلى محظور، لأنه يخالف الإجماع، فلم يقل به أحد.
ومن صور التلفيق الممنوع أيضاً: أن يطلق شخص زوجته ثلاثاً، ثم تتزوج بابن تسع سنين بقصد التحليل، مقلدا ً زوجها في صحة الزواج للشافعي، فأصابها، ثم طلقها مقلداً في صحة الطلاق، وعدم الحاجة إلى العدة للإمام أحمد، فيجوز لزوجها الأول العقد عليها فوراً. فهذا التلفيق ممنوع لأنه يؤدي إلى التلاعب بقضايا الزواج، لذا قال الشيخ الاجهوري من الشافعية: هذا ممنوع في زماننا ولا يجوز ولايصح العمل بهذه المسألة، لأنه يشترط عند الشافعي أن يكون المزوج للصبي أباً له، أو جداً، وأن يكون عدلاً، وأن يكون في تزويجه مصلحة للصبي، وأن يكون المزوج للمرأة وليها العدل بحضرة عدلين، فإذا اختل شرط لم يصح التحليل لفساد النكاح.
حكم التلفيق في التكاليف الشرعية:
تنقسم الفروع الشرعية إلى ثلاثة أنواع:
الأول ـ ما بني في الشريعة على اليسر والتسامح مع اختلافه باختلاف أحوال المكلفين.
الثاني ـ ما بني على الورع والاحتياط.
الثالث ـ ما يكون مناطه مصلحة العباد وسعادتهم.
أما النوع الأول ـ فهو العبادات المحضة، وهذه يجوز فيها التلفيق، لأن مناطها امتثال أمر الله تعالى والخضوع له مع عدم الحرج، فينبغي عدم الغلو بها؛ لأن التنطع يؤدي إلى الهلاك.
أما العبادات المالية: فإنها مما يجب التشديد بها احتياطاً خشية ضياع حقوق الفقراء، فلا يؤخذ بالقول الضعيف أو يلفق من كل مذهب ماهو أقرب لمصلحة المزكي لإضاعة حق الفقير، وإنما يجب الإفتاء بالأحوط والأنسب لمصلحة الفقراء.
وأما النوع الثاني ـ فهو المحظورات: وهي مبنية على مراعاة الاحتياط والأخذ بالورع مهما أمكن (3)، لأن الله تعالى لا ينهى عن شيء إلا لمضرته، فلا يجوز فيها التسامح أو التلفيق إلا عند الضرورات الشرعية، لأن (الضرورات تبيح المحظورات).
وعليه لايجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق الله (أو حقوق المجتمع) حفاظاً على النظام العام في الشريعة، واهتماماً برعاية المصالح العامة. كما لا يجوز التلفيق في المحظورات المتعلقة بحقوق العباد (حقوق الأشخاص الخاصة) منعاً من الاحتيال على حقوق الناس وإلحاق الضرر بهم والاعتداء عليهم.
وأما النوع الثالث ـ فهو المعاملات المدنية: والعقوبات الشرعية (الحدود والتعزيرات)، وأداء الأموال الواجبة شرعاً من عشر المزروعات، وخراج الأراضي، وخمس المعادن المكتشفة، والمناكحات (أو الأحوال الشخصية). فعقود الزواج (المناكحات) وما يتبعها من أنواع الفرقة الزوجية: مبناها سعادة الزوجين وأولادهما. ويتحقق ذلك بالحفاظ على الرابطة الزوجية، وتوفر الحياة الطيبة فيها، كما قرر القرآن الكريم: {فإمساك بمعروف،أو تسريح بإحسان} [البقرة:229/ 2]. فكل ما يؤيد هذا الأصل يعمل به، ولو أدى في بعض الوقائع إلى التلفيق الجائز، أما إذا اتخذ التلفيق ذريعة لتلاعب الناس بأقضية الزواج والطلاق، فيكون تلفيقاً قادحاً ممنوعاً، مراعاة للقاعدة الشرعية: وهي (أن الأصل في الأبضاع التحريم) صيانة لحقوق النساء والأنساب.
¥