[الأعراف: 194].
حتى فيما يقدر عليه العباد ويكون في وسعهم القيام به ينبغي سؤال الله تعالى، وقطع الالتفات إلى الخلق، لكن نجد –مع الأسف- أن بعض الناس إذا أصيب بمرض مثلاً ذهب إلى من برقيه، بينما كان ينبغي عليه أن يرقي نفسه ابتداء، وما من أحد من المسلمين –بحمد الله- إلا يستطيع أن يقرأ على نفسه بالفاتحة وآية الكرسي والمعوذات، ونحو ذلك من السور والآيات.
ولا يخفى أن الإنسان عندما يرقي نفسه بنفسه، لا شك أنه سوف يجتهد بالرقية، وتكون قراءاته بحضور قلب وتعلق بالله –عز وجل-، وهي أحرى بالإجابة، فكم من شخص رقى نفسه فشفاه الله –عز وجل-.
ومن ذلك أيضاً: أن بعض الناس إذا احتاج إلى وظيفة، أخذ يبحث عن واسطة، ولا يلجأ إلى ربه أولاً في أن ييسر له هذه الوظيفة، وأذكر هنا قصة واقعية سمعتها من إذاعة القرآن الكريم، وهي: أن شخصاً أراد وظيفة ما، فذهب إلى أصحاب الشأن، فلم يلتفتوا إليه، فضاق به الأمر، فذهب إلى أحد أهل العلم يريد شفاعته، فأرشده إلى اللجوء إلى الله –عز وجل-، فأخذ بنصيحته، فقام قبل الفجر، فأخذ يصلي ويدعو الله –عز وجل-، ثم بعد ذلك ذهب إلى من كان قد ذهب إليهم فيما سبق في طلب الوظيفة، فتيسرت له هذه الوظيفة، حتى قال له أحد المسؤولين الذين قد ذهب إليه في المرة الأولى ولم يلتفت إليه، قال له: أين أنت؟
بل أنك تجد بعض الناس حتى في الدعاء لنفسه يطلب من الناس أن يدعوا له، وربنا يقول: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] وقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186].
وقد جاء عن بعض السلف –وهو أصبغ بن زيد الوراق- أنه قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثاً لم نطعم طعاماً، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة، فقالت: يا أبت الجوع، فتركتها وأتيت الميضأة فتوضأت للصلاة وصليت ركعتين، ومددت يدي لأدعو فأنسيت ما كنت أحسنه في الدعاء، فقلت: اللهم إن كنت حرمتني الرزق فلا تحرمني الدعاء، فألهمت أن قلت: اللهم خشعت الأصوات لك، وضلت الأحلام فيك، وضاقت الأشياء دونك، وهرب كل شيء منك إليك، وتوكل كل مؤمن عليك، فأنت الرفيع في جلالك، وأنت البهي في جمالك، وأنت العلي في قدرك، يا من هو في علوه دان، وفي دنوه عال، وفي سلطانه قوي، صل على محمد وعلى آله محمد، وافتح علي منك رزقاً، لا تجعل علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة، برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت، فإذا ابنتي الكبيرة قد قامت إلي وقالت: يا أبي قد جاء الساعة عمي بهذه الصرة من الدراهم، بجمل عليه دقيق، وجمل عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرؤوا أخي السلام، وقولوا له: إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء: تأتك حاجتك.
قال أصبغ: والله ما كان لي أخ قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير! والحمد لله رب العالمين؟!.3
قلت: وموضع العبرة في هذه القصة: أن هذا الرجل توجه إلى ربه، وصلى ركعتين، ومد يديه إليه، فجاءه الفرج سريعاً من قبل ربه عز وجل.
وهذه قصة ذكرها أبو محمد ابن حزم، وقعت لأبيه، وكان وزيراً لأحد الملوك في بلاد الأندلس، وهو المنصور بن أبي عامر، وهي قصة ثابتة، فقد قال ابن حزم: أخبرني هشام بن محمد عن أبي، أنه كان بين يدي المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه العامة، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون، كان ابن أبي عامر حنق عليه بجرم استعظمه، فلما قرأها اشتد غضبه، وقال: ذكرتني والله به، وأخذ القلم يوقع، وأراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يُطلق، ورمى الكتابة إلى الوزير، فأخذ أبوك القلم، وتناول رقعة، وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرط، فقال له ابن أبي عامر: ما هذا الذي تكتب؟ قال: بإطلاق فلان، فحرد وقال: من أمر بهذا؟ فناوله التوقيع، فلما رآه وقال: وهمت، ثم خط على ما كتب وأراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يُطلق، فأخذ والدك الرقعة، فلما رأى التوقيع: تمادى على ما بدأ به من الأمر بإطلاقه، ونظر إليه المنصور متمادياً على الكتاب! فقال: ما تكتب؟ قال: بإطلاق الرجل، فغضب غضباً أشد من الأول، وقال: من أمر بهذا؟ فناوله الرقعة، فرأى خطه، فخط على ما كتب، وأراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يطلق، فأخذ والدك الكتاب، فنظر ما وقع به، ثم تمادى فيما كان بدأ به، فقال له: ماذا تكتب؟ قال: بإطلاق الرجل وهذا الخطاب كان ثالثاً بذلك، فلما رآه عجب، وقال: نعم يطلق على رغمي، فمن أراد الله إطلاقه لا أقدر أنا على صنعه، أو كما قال.4
فانظر إلى هذا الملك أراد أن يكتب يُصلب فلم يمكنه الله عز وجل في ذلك مع حرصه في فعل ذلك ثلاثة وهو لا يستطيع أن يكتب ذلك ذات الأحرف الأربعة ففي جميعها يكتب يطلق بدل يصلب حتى انتبه في المرة الأخيرة فأمر بإخراجه وقال من أراد الله إطلاقه لا أقدر على صنعه. وصدق الله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، ولعل أم هذا الرجل توجهت إلى الله عز وجل بالدعاء بإطلاق ولدها فاستجاب لها.
قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم: "وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها، ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه، وسؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى: ((فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7 - 8]، أي: ارغب إلى الله لا إلى غيره".5
وبالله التوفيق
أملاه
الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن السعد
1 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/ 194 - 195.
2 - كتاب "المستغيثين بالله" لابن بشكوال ص (68
3 - كتاب "المستغيثين" لابن بشكوال ص (63).
4 - الإمام ابن حزم ص (80) للظاهري.
5 - "مجموع الفتاوى" (1/ 181).